المثقف العراقي أمام قضايانا الكبرى

يمر العراق والمنطقة بواحدة من أدق وأخطر المراحل في التاريخ الحديث.
العراق العزيز يشهد وضعا شاذا من حيث سيادة العنف والقتل والخطف وفي قلب العاصمة نفسها. قوى الإرهاب تسرح وتمرح وتخطف كل يوم العشرات أمام الأنظار وفي وضح النهار.
فكيف يمكن لذلك أن يتم لولا تواطؤ شرطة وأجهزة مخترقة، ولولا أن الحكومات المتعاقبة بعد صدام لم تعمل شيئا حقيقيا لنزع الأسلحة المنتشرة حتى بين الأطفال، بينما مليشيات الأحزاب الحاكمة تعمل خلافا لسيادة القانون ولا تطيع غير أحزابها. عراق الحَر الشديد في الصيف لا يتسم المواطنون فيه وفي قلب بغداد غير ساعتين أو ثلاث ساعات يوميا من الكهرباء، وغالبا ما ينقطع تماما، بينما باعة الثلج صاروا يطاردون ويقتلون باسم الإسلام والنبي بذريعة عدم توفر الثلج في عهد النبي. وهذا العراق صار مستنقعاً للفساد المالي والإداري بحيث وضعوه على رأس الدول العربية في الفساد. أما التدخل الإقليمي والإيراني- السوري خصوصا، فلم يعد مجرد خبر عابر أو إشاعة بل هو الواقع اليومي، ولا سيما التدخل الإيراني الذي صار ينهب نفطنا وينوي ابتلاع الجنوب باسم الفيدرالية!
أجل إن همومنا العراقية أكبر من الكبيرة، ومن الطبيعي للمثقف العراقي الوطني الحريص حقا على المصلحة العامة أن يتابع بقلق تطورات الوضع مهما كان بعيدا عن أرض الوطن لسبب أو لآخر. إن من واجبنا الوطني أن ننشغل بهموم شعبنا كما أن من حقنا أن نتأمل ونفكر ونبحث عن نقاط الخلل وسبل الإصلاح، كل حسب اجتهاده وقناعاته. والحوار وتبادل الرأي والنقاش حول هذه القضايا ضروري ومفيد بشرط أن يجري ذلك بروح عراقية وبنية نزيهة وبلا مهاترة وتجريح للآخر، ومن منطلق أن الحقائق نسبية ومن الواجب أن يحترم كل منا وجهة نظر الآخر لا أن يواجهها بالتحريف والشتم والقذف البذيء.

ما مر يصدق أيضا على القضايا الساخنة اليوم في المنطقة، وأولها اليوم حرب لبنان التي أشعلها حزب الله. ومعلوم أن دولا عربية هامة كالسعودية ومصر والأردن أبدت منذ اليوم الأول تحفظها الشديد على مغامرة السيد نصر الله، الذي دخل حربا لم يستشر فيها لا الحكومة الشرعية ولا دول الجامعة العربية، والنتيجة هذا الدمار الشامل ومآسي قانا وغير قانا. وفي الحقيقة أنه سبق لأوساط أخرى إدانة استخدام حماس وحزب الله للمدنيين دروعا واقية وإطلاق الصواريخ من أحيائهم، وهذا ما يذكرنا به مقال الكاتب أشرف عبد القادر ليوم 31 تموز المنصرم. ففي جريدة القدس العربي يوم 7 ديسمبر 2005 كتب صقر بسيسوم، أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح:
"حماس تطلق الصواريخ على التجمعات السكنية الإسرائيلية من بين منازل المواطنين الفلسطينيين". كما أن الأمين العام المساعد للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية يان إيجلاند طالب حزب الله بوقف "عملياته الجبانة" التي يطلقها من لبنان من بين الأحياء السكنية ووسط النساء والأطفال، ليرد الجيش الإسرائيلي على أماكن انطلاق الصواريخ فيصيب المدنيين الأبرياء." وكما يقول الأستاذ أشرف عبد القادر فإن الاستخفاف بأرواح النساء والأطفال الفلسطينيين واللبنانيين جريمة حرب، ناهيكم عن بشاعة وفظاعة استغلال القصف الإسرائيلي الوحشي وضحاياه لمتاجرة بدماء الضحايا الأبرياء. وقد سبق لي معالجة هذا في مقالي عن قانا.
هكذا، فقد كان طبيعيا جدا أن تشغل القضية اهتمام الكتاب والمحللين العرب والعراقيين، مثلما صارت قضية اليوم دوليا.
لقد نشر كتاب عراقيون وعرب كثيرون وجهات نظرهم في الموضوع، ومهما كانت الهوة كبيرة بين رأي ورأي فالحوار الهادئ يبقى ضروريا ومفيدا.
لقد تابعت بكل اهتمام الجدل الذي كان الكاتب المعروف الدكتور عبد الخالق حسين أحد طرفيه منذ يومين. وفي الحقيقة لم أكن قد قرأت مقال السيد نجم حتى قرأت رد الدكتور حسين، ولما عدت لمقال السيد نجم فوجئت حقا بتلك اللغة النابية والاستفزازات المقصودة وحرف القضية اللبنانية والجدل حولها إلى اتهامات وقذف مسف. إن مثل هذا النمط من الكتابة يسئ غاية الإساءة لحرية التعبير والصحافة، مثلما يسئ لقضايانا الملتهبة التي يجب أن تشغلنا قبل أية عقد شخصية وحزازات وحسابات ذاتية. لقد كنت أتوقع أن يأتي المقال التالي للسيد الموما إليه معتذرا لمن شتمهم، و مبررا تلك اللغة المسفة، وأن يعود لموضوع لبنان ويناقش آراء من يعتبرهم خصوما لهم ويرد الحجة بالحجة. غير أنه بدل ذلك جاء ليشغلنا بقضية أخرى صارت من الماضي ونعني هنا غزو الكويت، القضية التي مرت عليها 16 عاماً، وكأن الكاتب يريد الاحتماء هذه المرة بخيمة الكويت ضد خصومه العراقيين. وبالمناسبة فإن معظم أطراف المعارضة ضد صدام أدانوا الغزو في حينه وحتى من كان لديهم بعض الالتباس التاريخي حول عائدية الكويت. أدانوا جميعا الغزو وهاجموا النظام الصدامي بشدة ودون مزايدات. على كل حال، فقد مرت تلك العاصفة والكوارث التي نزلت على الكويتيين والعراقيين معا، واضطر صدام للموافقة على القرار الدولي حول ترسيم الحدود. وفي حرب تحرير العراق كان الكويت أكثر الدول العربية دعما لشعبنا في حين وقفت دوائر عربية كثيرة رسمية وغير رسمية وإعلامية ضد مجلس الحكم عند قيامه، ومنهم من احتضنوا الإرهاب ودعاة الإرهاب، وعلى الأخص سوريا وقطر وجزيرتها المشؤومة. لقد بادر كل من المسؤولين العراقيين الجدد والكويتيين لتطبيع العلاقات وتطويرها درجات جيدة، وراحت وسائل إعلام كويتية تستضيف لفيفا من المثقفين العراقيين الأحرار للتعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم في قضايا الساعة.
فأي مبرر ولأي غرض يريد السيد نجم عبدالكريم إشعال الإثارة والحساسية اليوم بينما القضية التي كان طرفا فيها هي قضية الحرب في لبنان والموقف من حزب الله؟؟ نضيف، نعم صحيح أن لفيفا من العراقيين، وقفوا مع الغزو ومنهم من تطوعوا للعمل في إذاعة نصبها صدام باسم الكويتيين لهدم معنوياتهم. ولعل السيد نجم يتذكر اليوم موقف أخيه (السيد مسافر عبد الكريم) الذي كان يقدم إثناء الاحتلال برنامج "حياكم الله"!! يرحب به بالاحتلال الصدامي والذي لقي مصرعه على يد المقاومة الكويتية في اليوم الثاني من تحرير الكويت. فتباكي نجم عبدالكريم على غزو الكويت بعد 16 عاماً من تحريرها بفضل أمريكا وبريطانيا اللتين يشتمهما بمناسبة وبدونها، وإلقاء اللائمة على المعارضة العراقية آنذاك واتهامها بأنها لم تنتقد صدام على جريمته المنكرة، محاولة يائسة ومكشوفة الأغراض وهي لا تعبر على الكويتيين الشرفاء في جميع الأحوال.
نعم، الحوار الهادئ والنزيه بين المثقفين والساسة حول لبنان والعراق وحول البرنامج النووي الإيراني أمر ضروري وواجب. أما المهاترات ولغة القذف والاتهام فيجب لفظها وعلى الصحافة الحرة كإيلاف قطع الطريق أمام تكررها، وإفساح المجال أمام كل الآراء النزيهة والهادئة بهذا الصدد.

مراد مصطفى

المصدر: إيلاف، 3/8/2006