الأهداف الحقيقية وراء تدمير لبنان

بمرور الأيام تكشَّفت الأهداف الحقيقة وراء تفجير الأزمة اللبنانية التي جاءت كرد فعل إسرائيلي شديد لقيام حماس وحزب الله باختطاف ثلاثة جنود إسرائيليين، والذي أدى إلى تدمير كل من غزة ولبنان وترويع شعبيهما.

يبدو للوهلة الأولى، أن الأهداف المعلنة عن العملية التي قام من أجلها كل من (حماس) و(حزب الله) هي أهداف مشروعة ونبيلة، أي المطالبة بإطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين وثلاثة أسرى لبنانيين من سجون إسرائيل، مقابل إطلاق ثلاثة جنود إسرائيليين تم أسرهم من قبل الحزبين المذكورين. ولكن بعملهما هذا وتحت هذه الواجهة، أراد هذان الحزبان تخريب عملية السلام في حل الصراع العربي-الإسرائيلي، وإحراج موقف كل من يعارض عملية اختطاف الجنود الإسرائيليين، من كتاب وسياسيين وحكومات، وعليه تكون الغلبة الدعائية في هذه الحالة للحزبين الإسلاميين، حماس وحزب الله،! ووفق هذا المنطق، فكل من ينتقد هذه العملية هو انبطاحي وجبان وخائن وكافر ومتصهين وعميل للأمريكان وإسرائيل!!

ولكن نحن نعرف والعالم من حولنا يعرف، كما ويعرف قادة الحزبين (وإن لم يعرفوا فالمصيبة أعظم!!)، ومن جميع التجارب المماثلة السابقة، أن ردود أفعال إسرائيل دائماً تفوق مئات المرات الأفعال التي يقوم بها أعداؤها ضدها. وهذا يعني أن قادة الحزبين كانوا على علم مسبق بأن إقدام أنصارهم على اختطاف ثلاثة جنود إسرائيليين سوف لن يخدم قضية شعبيهما، بل سيجلب عليهما الدمار الشامل. وهذا ما حصل.

طيب، نود مواصلة النقاش بالتي هي أحسن، عسى ولعل أن نستطيع إقناع الذين يبررون فعلة حماس وحزب الله تحت واجهة المعركة من أجل الكرامة واسترجاع الحقوق المغتصبة، ولكن على شرط أن تكون الغاية من هذا السجال هي الوصول إلى الحقيقة ولنرى أي طريق سيؤدي إلى استرجاع الحقوق المغتصبة، طريق الحرب أم طريق السلام؟

نبدأ بذكر عدد من المبادئ المسلَّم بها وهي أشبه بالبديهيات التي لا تقبل الاختلاف عليها، ومنها نتدرج إلى النقاط الخلافية:
المبدأ الأول: أن الحرب هي آخر وسيلة تلجأ إليها الحكومات في حل الخلافات السياسية. فطالما هناك وسائل سلمية، يجب إتباعها وتجنب العنف.
المبدأ الثاني: السياسة كالتجارة، وظيفتها العمل من أجل المصالح، وفي هذه الحالة يجب حساب الربح والخسارة في كل عملية سياسية أو عسكرية يقدم عليها القائد السياسي، أي أن يتجنب العمليات التي من شأنها تقود إلى الخسائر فقط.
المبدأ الثالث: يجب على القائد السياسي الناضج أن لا يزج بشعبه وجيشه في حرب غير محسوبة، ما لم يكن واثقاً مائة بالمائة من النصر، وهذا لن يتحقق إلا إذا كانت قواته تفوق قوات العدو، عدة وعدداً. وإلا فيجب على الأقل أن لا يكون هو البادئ في الحرب.
المبدأ الرابع: إذا فرضت الحرب على القائد السياسي من قبل العدو، عندئذ يجب الدفاع عن حياض الوطن، لأن في هذه الحالة وكما يقول الشاعر:
إن لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا

وبناءً على هذه المبادئ، نسأل: هل انتهت الطرق السلمية في حل الصراع العربي-الإسرائيلي؟ الجواب: كلا، فهناك اتفاق فلسطيني-إسرائيلي على حل الصراع سلمياً، وقد نال هذا الاتفاق اعتراف القيادة الفلسطينية منذ الرئيس الراحل ياسر عرفات وإلى الرئيس محمود عباس، وحق دولة إسرائيل في البقاء، ونبذ العنف، وقيام الدولة الفلسطينية، جنباً إلى جنب الدولة الإسرائيلية والتعايش السلمي في المنطقة. وهذه الاتفاقيات نالت اعتراف ومباركة المحافل الدولية ودعم الدولة العظمى والوحدة الأوربية. فما الحكمة إذن من وراء تخريب هذه الحلول السلمية والإصرار على سياسات غير واقعية مثل التحرير من النهر إلى البحر؟ والسؤال الآخر هو: هل حماس وحزب الله متكافئان في القوة لقوة إسرائيل العسكرية ومن ورائها أمريكا؟ الجواب أيضاً بالنفي، إلا من يريد المكابرة ويركب رأسه. لقد جربت الجيوش العربية مجتمعة منذ 1948 ولحد الآن حظها وأثبتت أنها لن تستطيع إلحاق الهزيمة بإسرائيل، بل كانت الجيوش العربية هي التي منيت بالهزائم المتتالية في جميع الحروب التي خاضتها مع إسرائيل. فهل نحن خونة وكفرة إذا ما قلنا هذه الحقيقة وحذرنا القيادات السياسية من مغبة مغامراتها والمقامرة بمصائر شعوبها؟ ففي هذه الحالة يجب على القادة السياسيين وبالأخص الإسلامويين أن يعرفوا ويلتزموا بما قاله الله في القرآن الكريم: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة». فبأي حق يغامر حزب الله وحماس بمصير شعبيهما بزجهما في حروب غير محسوبة، وغير متكافئة ومحسومة النتائج مسبقاً؟

إذن من المستفيد من هذه المغامرة وعواقبها الوخيمة؟ الجواب بات واضحاً، وكما توصل إليه معظم المعلقين السياسيين وأكد عليه قادة الحكومات الغربية، ويعرفها كل ذي عقل سليم، أن تفجير الأزمة اللبنانية وفي هذا الوقت بالذات، وقت عقد مؤتمر الدول الصناعية الكبرى الثمانية في مدينة بطرسبوغ، كان مخططاً من قبل إيران وحليفتها سوريا لخدمة أغراض هذين النظامين المتأزمين وبذلك يمكن التضحية بالقضية الفلسطينية وحرق لبنان وتدميره من أجل خدمة أغراض إيران وسوريا.

ما هي أهداف المحور الإيراني-السوري من هذا الحريق؟
إيران في حالة صراع مع أمريكا ودول الوحدة الأوربية حول برنامجها النووي، لذلك أقدم الحزبان السائران في فلك سوريا وإيران وبأوامر من حكام الدولتين على تفجير هذه الأزمة من أجل تحويل انتباه مؤتمر الدول الصناعية في بطرسبورغ عن برنامج إيران النووي وإشغالهم بالأزمة اللبنانية المشتعلة، وأن تثبت لهذه الدول وللعالم، أنه لا يمكن استقرار الوضع في العراق ولبنان ومنطقة الشرق الأوسط كلها بدون أن يكون لإيران دور ويتركونها لحالها في تنفذ برنامجها النووي. أما سورية فهي متهمة في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وكل التحقيقات الدولية تشير إلى ضلوع النظام السوري في هذه الجريمة. كذلك تريد سوريا أن تثبت للعالم أن هذه الأزمة هي نتيجة مباشرة لقرار مجلس الأمن الدولي 1559 الذي أرغم سوريا على سحب قواتها من لبنان وأن الوضع لن يستقر في هذا البلد إلا بعودة قواتها إليه.

نقول لمن يتهمنا بالعمالة والخيانة والكفر، أنه لا يكفي أن تدافع عن قضية عادلة فحسب، بل يجب أن تتبع الطرق المشروعة الصحيحة العقلانية والتي تتماشى مع الرأي العام الدولي وما اتفقت عليه المحافل الدولية. فهذه المغامرة غير المحسوبة التي أقدم عليها حزب الله كانت حصيلتها لحد كتابة هذه السطور (19/7/2006) مقتل أكثر من 300 لبنانياً، أغلبهم من المدنيين وثلثهم من الأطفال، وجرح نحو ألف. ويقول رئيس مكتب الصليب الأحمر في الشرق الأوسط، أن لبنان يواجه أزمة إنسانية، مشيراً إلى حوالي 700 ألف شخص في لبنان نزحوا بسبب الغارات الإسرائيلية، واتهم السيد فؤاد السنيورة، رئيس الوزراء اللبناني، في تصريحات لبي بي سي إسرائيل "بفتح أبواب الجحيم والجنون" على لبنان. فمن المسؤول عن هذه الكارثة؟ وهل المغامرة التي أقدم عليها حزب الله تستحق كل هذه التضحيات؟

نعم هناك من يصفق لنصرالله ويشجعه على المضي في هذه السياسية الانتحارية، فقد أفادت الأنباء أن "تظاهر مئات المصريين في وسط القاهرة أمس الثلاثاء (18/7) وردد المشتركون الذين قادهم الأخوان المسلمون هتافات تأييد للامين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله منها (همة همة همة نصر الله زعيم الامة) ورفعوا صورا له.
طبعاً هذه التظاهرة وسيلة سلمية يعبر الناس من خلالها عن مشاعرهم وآرائهم إزاء ما يعانيه الشعب اللبناني. وحبذا لو تتوفر هذه الحرية لجميع الشعوب العربية في التعبير عن مواقفها كما تريد. ولكن أيضاً يجدر بنا أن نذكر أن هذا التأييد والتحريض من بعيد لا يكلف هؤلاء شيئاً، طالما كانوا بعيدين عن أرض المعركة التي تحولت إلى جحيم للشعبين اللبناني والفلسطيني.
نعم، نحن نتألم عندما يسلِّم قادة من أمثال حسن نصر الله وخالد المشعل ويتحولان إلى دمى بيد حكام دمشق وطهران ويعرضون مصالح شعوبهم إلى الدمار الشامل خدمة لهؤلاء الحكام.
كتب القارئ الكريم (دجلة) تعقيباً على مقالي السابق (لبنان يحترق ونيرون يتبجح ) يعيب عليَ انتقادي لحسن نصر الله من "برجي العاجي" في لندن. ويصر على احتمال دخول "نملة" حزب الله في "أذن الفيل الإسرائيلي" وتقتله!!! وبذلك سينتصر حسن نصر الله وحزبه على إسرائيل. وكطبيب جراح، درست علم البيولوجيا وعلوم الطب والجراحة، ومارست الجراحة لثلاثين عاماً، عشر سنوات في العراق وعشرين عاماً في بريطانيا، وأعرف أنه يمكن للطيور أن تقتات على الحشرات الطائرة وغيرها، ولكن لم أسمع أو أقرأ في حياتي أن إنساناً، ناهيك عن الفيل الذي يعادل في حجمه عدة مرات حجم الإنسان، قد مات بسبب دخول نملة في أذنه. فهذا الاحتمال يا سيد دجلة ضعيف جداً، وأنا أعتب عليك وأنت المثقف أن تراهن على هذا الاحتمال الضعيف في انتصار حسن نصر. وهذا ديدن العرب، دائماً يراهنون على الغيبيات وعلى الحصان الخاسر، معتقدين أن التاريخ يسير وفق الأهواء والتمنيات ولذلك ونتيجة لهذه العقلية صار العرب يحصدون الهزائم تلو الهزائم... وكما قال الراحل نزار قباني:
قابعين في المساجد تنابل كسالى
يدعون النصر من عنده تعالى
وكأن الله حداد يصنع السيوف

كما وعقب آخرون، يصرون على صحة ما أقدم عليه حسن نصرالله وأن انتصاره على إسرائيل مسألة حتمية ومحسومة لأن الله معه. أؤكد لهؤلاء أن أخطر ما يرتكبه القائد السياسي، هو عندما يعتقد أن الله معه. فحسن نصرالله لم يستشر الله في هذه المغامرة إذ انقطع الوحي منذ وفاة الرسول (صلعم)، كما لم يستشر، لا الشعب اللبناني ولا الحكومة اللبنانية اللذين ورطهما في هذا الجحيم. ولعلم هؤلاء أقول، كان صدام حسين هو الآخر قد أكد لمراسل تلفزيون الـ CNN أنه سينتصر على جورج بوش (الأب) في حرب الكويت، ولما سأله المراسل: (كيف؟ وما هو دليلك)، أجاب صدام: "سأنتصر على بوش لأن الله معي، وسينهزم هو لأن الشيطان معه".
أيها السادة، نحن نعيش في عصر العلم، ويجب إخضاع كل عمل نقوم به إلى حسابات علمية دقيقة قبل الإقدام على أي عمل من شأنه أن يحرق البلاد ويهلك العباد، ولا نترك مجالاً للأهواء والتمنيات والغيبيات والاعتماد على الاحتمالات الخيالية. فإسرائيل ومعها الدول الغربية، يعتمدون على العلم والتكنولوجية في السياسة والاقتصاد والحرب والسلم وكل شيء، ولن يسلموا شعوبهم لقادة قاموا بتسييس الله وجعلوه طرفاً في المنازعات والصراعات الدنيوية بين البشر.

خلاصة القول، لقد زج حسن نصر الله وخالد المشعل شعبيهما في هذه الحرب الطاحنة غير المحسوبة، ليس لإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين، كما هو المعلن، بل لخدمة أغراض إيران وسوريا وجر المنطقة إلى حرب مدمرة. والنتائج معروفة سوف لن تختلف عن تلك الحروب التي خاضتها الدول العربية مع إسرائيل منذ عام 1948 ولحدن الآن، فكلها قادت إلى هزائم مذلة.
وختاماً، أذكر حكاية مفادها أن فلاحاً فاضت عنده كمية من الحنطة والشعير. فأراد أن ينمي هذه الثروة، فباع الحنطة واشترى حماراً. وهذا الحمار طبعاً يحتاج إلى علف، فما كان منه إلا وأن يأكل الشعير. وبذلك خسر الحنطة والشعير معاً. وصار يضرب بـه المثل: "من قلة تدابيره، حنطته تأكل شعيره". اعتقد هذا المثل ينطبق على الزعيمين، خالد المشعل وحسن نصر الله. فقام أنصارهما بأسر ثلاثة جنود إسرائيليين من أجل إطلاق سراح عدد من أسراهم في السجون الإسرائيلية. ولكن في النهاية دفعا لحد الآن مئات الشهداء وأكثر من ألف جريح، وخسائر مادية لا تقدر.
أجل، من قلة تدابيره حنطته تاكل شعيره.

د.عبدالخالق حسين
20/7/2006

مقالة ذات علاقة:
عبدالخالق حسين: لبنان يحترق ونيرون يتبجح