السباق نحو الهاوية!

إذا كان الغراب دليل قوم يقودهمُ إلى أرض الخراب (شاعر عربي)

بات واضحاً أن بعض شعوب الشرق الأوسط تقودها غربان إلى أرض الخراب. فالمنطقة عبارة عن برميل بارود يلعب به الصبيان الذين تسطوا على قيادات ومقدرات هذه الشعوب البائسة. أجل، هذا ما جرى وما زال يجري لشعوب كانت تعتقد أنها (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، سلاحها الشعر والشعارات الثورية الفارغة. شعوب أسلمت قيادتها لغربان تنعق بأيديولوجيات الموت لتقودها نحو الهاوية. أمة لا مكانة لخيرة مثقفيها في أوطانها، ليقودها البلطجية من عصابات قطاع الطرق تدعي أنها أحزاباً دينية تطلق على نفسها أسماءً مقدسة لتضفي على جرائمها القداسة، لأنها كما تدعي، تجاهد في سبيل الله ومسلحة بالنصوص المقدسة. هؤلاء القادة لا يتصرفون بعقلية قادة حكومات وأحزاب سياسية تتحمل مسؤولية شعوبها أمام العالم المتحضر، بل تتصرف كرؤساء عصابات قطاع الطرق ومافيات المخدرات، دون أن تبالي بمصائر شعوبها.

مسكينة هذه الشعوب، فبعد أربعة قرون من الحكم العثماني التركي المظلم، كانت قد بدأت تفيق من غفوتها لتدخل القرن العشرين على ضربات مدافع الدول الغربية "الاستعمارية الكافرة". وبفضل هذا التدخل الاستعماري الغربي بدأ العرب نهضتهم الحديثة التي كانت تبشر بالخير في بداية الأمر فيما لو سمح لها بالاستمرار وتم استثمارها بالعقل والحكمة، كما استفادت اليابان وشعوب أخرى في العالم. فأقصى وأروع ما استطاعت الشعوب العربية تحقيقه من نصر في القرن العشرين هو تأسيس دولها الوطنية. ولكن مصيبة هذه الشعوب نجمت من نزعة المكابرة وعقدتها ضد كل شيء أجنبي. فقد شاءت الأقدار أن تتغلب الثقافة البدوية الموروثة على الحداثة، فاغتصب المتأدلجون السلطة وتسلطوا على رقاب شعوبهم وأجهضوا تلك النهضة الرائدة وقادوها إلى الدمار الشامل، تارة باسم وحدة الأمة العربية وأخرى باسم وحدة الأمة الإسلامية. واستهان هؤلاء حتى بتأسيس هذه الدول الوطنية مدعين أنها من صنع الاستعمار يجب هدمها وإقامة دولة الوحدة من المحيط إلى الخليج، الفنتازيا التي تحولت إلى الكوابيس وهزائم.

لقد قاد عبد الناصر الشعب المصري والشعوب العربية منذ انقلاب يوليو 1952 من كارثة إلى كارثة وهزيمة تلو الهزيمة، انتهت باحتلال كل فلسطين وسيناء والجولان وخراب الديار، ليأتي بعده صدام حسين ويكمل المشوار بزج العراق وشعوب المنطقة في حروب عبثية وهزائم مذلة انتهت باحتلال العراق وتفشي الإرهاب. كل ذلك تم باسم كرامة الأمة والوحدة العربية والعزة القومية ومحاربة الاستعمار وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر وإلقاء اليهود في البحر لتأكلها الأسماك.

وبعد تلك الهزائم المذلة على يد القيادة القومية "التاريخية" وقتل الملايين من البشر وضياع الثروات الهائلة وإيقاف التنمية لعشرات السنين، جاء دور الأحزاب الإسلامية لتدعي أنها تأتمر بأمر الله، وتريد حكمنا باسم الله والإسلام، وبالتالي قيادة شعوبها نحو الهلاك. وما دور هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، سوى التصفيق والتأييد وترديد الهتافات والشعارات كالببغاوات و( حزب الله هم الغالبون) وتقديم رقصات الموت وهي تساق إلى حتفها كالنعاج. شعوباً كهذه وقادة كهؤلاء، لا بد وأنها تحث الخطى نحو المزيد من الكوارث.

لقد احتاجت القيادات العربية وخاصة الفلسطينية منها خمسين عاماً من الكوارث والهزائم لتتعلم أن السياسة فن الممكن، والعمل بالأمر الواقع والمطالبة بالمزيد، وأنه من مصلحة هذه الشعوب حل الصراع العربي-الإسرائيلي بالمفاوضات والطرق السلمية المتاحة وليس بخوض حروب خاسرة ومحسومة النتائج مسبقاً. ولكن الكارثة ما أن تعلمت القيادات القومية والوطنية هذا الدرس البليغ ووافقت على الحلول السلمية، لتأتي الأحزاب الإسلامية اليوم رافعة شعار (الإسلام هو الحل) وسياسة (كل شيء أو لاشيء) والتحرير من النهر إلى البحر، لتعيد العملية السياسية إلى المربع الأول الذي كان عليه قبل 60 عاماً وتذهب كل تلك التضحيات والتجارب المريرة أدراج الرياح.

نحن لا نتحدث هنا عن الحق والباطل، بل عن الممكن واللاممكن، وكيفية تحقيق أكبر قدر ممكن من الحقوق بأقل قدر ممكن من الخسائر. وهذا لا يتم إلا بالطرق السلمية. وهذه هي وضيفة السياسي والقائد المحنك. ولكن ما يتبعه القادة الغربان الآن هو طريق واحد، دون أن يحقق لهم أي حق مغتصب، بل يدفعون أكبر قدر من الخسائر، وهم مازالوا يصرون على هذا الطريق الذي هو طريق الانتحار الجماعي.

لقد أثبتت التجارب خلال الأشهر القليلة الماضية أن حزب الله وحزب حماس ليسا أحزاباً سياسية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه في العصر الحديث، بل عصابات من البلطجية والزعران والصبيان الذين اختطفوا الدين ونصوصه المقدسة، وبواسطتها اختطفوا شعوبهم ليخدعونها ويقودونها من كارثة إلى كارثة. لقد استثمر هؤلاء قضايا شعوبهم العادلة ليعملوا على تشويهها بإتباعهم وسائل العصابات البلطجية والشعارات الديماغوجية الشعبوية، غير آبهين بالنتائج الوخيمة.

ليس من باب الصدفة أن يقوم حزب الله في هذا الوقت بالذات باختطاف جنديين إسرائيليين مقابل حرق لبنان الجريح والذي لم يشف بعد من جراح الحروب الأهلية الطاحنة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. إنهم لا يريدون حرق لبنان فقط، بل ليشمل الحريق إلى ما بعد لبنان. لا يحتاج المرء كثيراً من الذكاء ليستنتج أن إقدام حزب الله على هذه الحماقة كان بأوامر من إيران وسوريا لزج المنطقة كلها في حالة فوضى عارمة، والتي هي أصلاً في حالة فوضى بسبب ما يجري في العراق ودور هذين النظامين الفاشيين، الإيراني والسوري، في تدمير العراق وجر المنطقة كلها إلى أتون محرقة طاحنة جديدة.

من بديهيات السياسة أن القيادة الحكيمة يجب أن لا تزج بشعوبها في معارك خاسرة محسومة النتائج مسبقاً. فهل نحن عملاء للصهيونية والإمبريالية إذا ما نصحنا حزب الله وحماس بعدم زج شعبيهما في معارك خاسرة لأن لا قدرة لهما ولا حتى للدول العربية مجتمعة في مواجهة إسرائيل وإلحاق الهزيمة بها؟ فهذه الخبرة ليست وليدة الساعة بل، هي نتاج الهزائم التي مني بها العرب خلال نصف قرن من الحروب الخاسرة والنكبات المتتالية. فما الذي كسبته حماس من اختطاف جندي إسرائيلي واحد؟ الحصيلة لحد الآن، عشرات القتلى ومئات الجرحى من الفلسطينيين المدنيين الأبرياء، وتدمير شامل للركائز الاقتصادية لشعب يئن من الفقر والبؤس، ومحروم حتى من أبسط وسائل الحياة. وما الذي كسبه الشعب اللبناني بإقدام عصابات حزب الله باختطاف جنديين إسرائيليين غير قتل العشرات وجرح المئات من المدنيين اللبنانيين الأبرياء، وتدمير كامل لمطار بيروت الدولي والطرق والجسور ومحطات الكهرباء وغيرها من المؤسسات الاقتصادية وترويع وتشريد السكان الآمنين؟ هل بإمكان حزب الله وحماس إلحاق الهزيمة بإسرائيل بالعنجهية والشعارات الفارغة والمظاهرات والصراخ بأن حزب الله هم الغالبون؟

وبدلاً من أن ينهض عقلاء القوم بإسداء النصيحة لحزب الله وحماس بعدم ارتكاب هذه الحماقة والمغامرة الغبية وزج شعبيهما بهذه التهلكة، نجدهم يعملون العكس، إذ يتباهى بعض قادة الأحزاب السياسية العربية وخاصة الإسلامية منها مثل مهدي عاكف مرشد إخوان المسلمين في مصر بتأييد السياسات الانتحارية التي أقدمت عليها حماس وحزب الله ودفعهما لارتكاب المزيد. لا شك إن حزب الله وحماس لم يقدما على ارتكاب هذه المغامرة إلا بدفع من أولياء نعمتهما وأسيادهما في طهران ودمشق. وممكن أن تجر هذه المعركة إلى حرب شاملة واسعة لتشمل إيران وسوريا. فهل عند ذلك سيخرج علينا العربان ليقولوا لنا أنها مؤامرة صهيونية إمبريالية استدرجت هذين البلدين لحرب مدمرة؟ فلماذا تعطي حماس وحزب الله الحجة لإسرائيل لشن حرب قاضية تجلب البلاء على شعوب المنطقة؟

التفسير الصحيح لهذه المغامرة هو أن عقلية الديكتاتورية الغبية واحدة، سواءً كانت برئاسة صدام حسين أو محمود أحمدي نجاد أو بشار الأسد، أو رؤساء عصابات لا يهتمون بمصائر شعوبهم من أمثال خالد المشعل وحسن نصر الله. إن هذه الأنظمة والعصابات لا تستطيع الاستمرار بوجودها على الساحة إلا بخلق الفوضى وإتباع سياسة حافة الهاوية وجر المنطقة إلى كارثة.

نؤكد لهؤلاء أن نتائج هذه الحروب غير المتكافئة محسومة مسبقاً وستكون وبالاً على الجميع. يجب على كل حكومة (وحزب يدور في فلكها) في منطقة الشرق الأوسط، أن تدرك، شئنا أم أبينا، أن دولة إسرائيل هنا لتبقى، وليس بإمكان أية قوة إزالتها من الخارطة، لا بتفجيرات الانتحاريين ولا بصواريخ حزب الله الخلب على حيفا، ولا بالتصريحات العنترية للرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ناهيك عن الشعارات الفارغة الأخرى. هذه الحقيقة أدركها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، لذلك أبرم معها اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 التي استعاد بموجبها جميع أراضيه المحتلة دون قطرة دم واحدة، ووفر على شبعه المزيد من الكوارث. والحقيقة الثانية التي يجب أن يعرفها هؤلاء هي أن إسرائيل بالنسبة لأمريكا هي الولاية رقم 51 ولا يمكن لأمريكا أن تضحي بها مهما كلفها الأمر. ولذلك فأمن وسلامة إسرائيل وبقائها جزء لا يتجزأ من استراتيجية أمريكا، وعلى حكومات وشعوب المنطقة التعامل مع هذه الحقيقة على هذا الأساس الواقعي إذا أرادت العيش بسلام.

لقد كان مردود عملية حزب الله في خطف جنديين إسرائيليين وبالاً عليه وعلى الشعب اللبناني، كما توقع الجميع. فغاية إسرائيل في بداية الأمر من شن حربها على لبنان الجريح كان إطلاق سراح الجنديين فقط. أما الآن فقد تطور الأمر وصعدت إسرائيل من طلباتها وغايتها من الحرب على لبنان، ليس تسليم الجنديين المختطفين فحسب، بل وتجريد حزب الله من السلاح وتدميره بالكامل. لذلك فهذه العملية ستدق آخر مسمار في نعش حزب الله.

والرئيس الإيراني ليس بإمكانه حماية سوريا إذا ما تعرضت الأخيرة إلى هجوم إسرائيلي غير تقديم الخطابات البلاغية والتهديدات الفارغة، ودفع حزب الله وحماس لخلق المزيد من الدمار للشعبين اللبناني والفلسطيني. وكما جلب البلطجي صدام حسين الكوارث على العراق وانتهى بحفرة حقيرة، فنفس المصير ينتظر أحمدينجاد وبشار الأسد وقادة الأحزاب التي تأتمر بأوامرهما. يجب أن يعرف هؤلاء أنهم قادة لشعوب فقيرة في العالم الثالث لا تقوى على مواجهة القوة العسكرية الهائلة التي تمتلكها الدولة العظمى، كما ظن صدام حسين. تقول الحكمة، ( العاقل من يتعظ من أخطاء غيره والجاهل لا يتعظ حتى من أخطائه). لذلك أؤكد أن لا سلام ولا استقرار في منطقة الشرق الأوسط إلا بزوال هذين النظامين الفاشيين، السوري والإيراني، وإلحاقهما بنظام البعث العراقي المقبور، وبالتالي قبول حل الصراع العربي-الإسرائيلي بالمفاوضات السلمية التي قطعت منظمة فتح شوطاً كبيراً فيها.

د. عبدالخالق حسين
15/7/2006