القيادة الكوردية
من سـياسـيين إلى رجــال دولــة
المتتبع لتاريخ الحركة التحرريه الكوردية/الكوردستانية في العراق يرى أنها مرت بفترات من الانسجام والهدوء والتعايش السلمي وقبول ألآخر تارة، وبأوقات حرجة من الصراع السياسي
والاقتتال الداخلي ورفض ألآخر ومحاولات القضاء عليه تارة أخرى. وكنتيجة لتلك الأوضاع شهدت الحركة المد والجزر منذ ستينات القرن الماضي حتى نهاية القرن. لعب خصوم وأعداء
الكورد دورا لا يستهان به في إثارة وتشديد الخلافات وتصعيدها وتسعيرها وإيصالها إلى حد الاحتراب، خاصة القوى المعادية للتطلعات السياسية الكوردية المشروعة من دول الجوار. كما
كان لبعض القياديين في صفوف القوتين السياستين الكورديتين الرئيسيتين دورا لا يمكن التقليل من شأنه في هذا التشديد والتصعيد مستفيدا من هذه الأوضاع كسُلم يسهل تسلقه للوصول إلى
المناصب العليا في تنظيماته السياسية، أما العدد القليل من الذين عبروا علانية عن شكوكهم بجدوى سياسة التشدد والتشنج وعن انتقادهم العلني لهذا الصراع الساخن فقد ضاعت أصواتهم في
خضم ضجيج الاقتتال الداخلي و"اكتوى" آخرون بسعيرها. حصد هذا الصراع أرواح الكثير من كوادر الكورد، عسكريين وسياسيين، وأضر بالحركة التحررية الكوردية أيما ضرر، وأضعف
قادة القوى السياسية المشاركة فيه وقلل من تأثيرهم السياسي والمعنوي في صفوف الكورد وعلى المستوى الكوردستاني والعراقي والإقليمي والدولي.
عكفت القيادة الكوردية آنذاك وحتى نهاية القرن المنصرم تقريبا على تقوية تنظيماتها الحزبية سياسيا وعسكريا وثقافيا وانصبت جهودها على "رصد" تحركات الطرف ألآخر وانشغلت في
ذلك بدلا من تركيز الجهود على إقامة وتقوية مؤسسات دولة في الإقليم بعد انتفاضة 1991، وآثرت أن تركز اهتماماتها على تطوير وإنماء القدرات والمصالح الحزبية والفئوية المختلفة
أكثر من استغلال الفرص المتاحة لتطوير وإنماء المصالح العامة المشتركة، وان تفاوت الأمر صعودا ونزولا من مكان لآخر ومن ظرف إلى آخر.
إلا أن الوضع تغير بشكل جذري مع بداية القران الحالي حين سنحت فرصة تاريخية جدية للتخلص من أعتا دكتاتور دموي عرفه الكورد وشعب العراق في تاريخهم الحديث من قبل القوات
متعددة الجنسيات حيث استطاعت القيادة الكوردية تجاوز الماضي واستخلاص العبر من دروسه وتطورت مع المتغيرات واعتمدت إستراتجية تغليب المصالح القومية المشتركة والقضايا
المصيرية العامة ولو كان في بعض الأحيان على حساب المصالح الحزبية والفئوية، وأصبحت الرؤية البعيدة المدى أكثر وضوحا وأهمية بعد تركيز الجهود عليها أكثر من القضايا الآنية
العابرة، وبدأت جهودها تنصب أكثر على القضايا الإستراتيجية المتعلقة بكوردستان والعراق وأقل على التكتيكات الحزبية، وساد الانسجام ووحدة الصف محل الفرقة والتشتت ("في الوحدة
انتصار وفي التشتت انكسار"). ولعبت القيادة الكوردية دورا ملحوظا في تجميع وتحشيد قوى المعارضة العراقية والتوفيق بين تياراتها المختلفة والمتخالفة والوصول بها إلى توافق على
حلول مشتركة للقضايا الأساسية التي سببت عدم الاستقرار في العراق وأقلقت شعبه. إضافة إلى دورها السياسي، قامت قوات الپيشمهرگه، القوات النظامية الإقليمية في العراق، بدور
عسكري مشرف في تحرير بقية كوردستان والقسم الشمالي من العراق وتطهيره من جيش وأجهزة النظام السابق بالتعاون مع القوات متعددة الجنسيات.
- فعلى مستوى العراق بذلت القيادة الكوردية بعد تخليص العراق من الدكتاتورية الشوفينية جهودا حثيثة ومتواصلة وأثبتت جدارة وحنكة سياسية في تقريب وجهات النظر
والوصول إلى حلول وسط تحضي برضي وتوافق جميع أو أغلب الإطراف التي شاركت في اجتماع لندن نهاية 2002 وقبلها في صلاح الدين أو تلك التي كانت ضمن صفوف مجلس
الحكم. ونجحت، بمشاركة وتعاون القوى السياسية الأخرى، في إنجاح عملية إجراء انتخابات برلمانية ديمقراطية في 30/1/2005 وإجراء الاستفتاء على دستور دولة العراق الفدرالية (
الاتحادية). وأظهرت القيادة الكوردية الكثير من المرونة والحكمة السياسية وروح التسامح ورفض عقلية الانتقام، وبذلت الكثير من الجهود المتواصلة بدون كلل أو ملل لتضييق الخلافات
بين مختلف الإطراف العراقية وعملت بجد وتواصل لإقناع الإخوة العرب السنة في الدخول في العملية السياسية السلمية والمشاركة فيها ونبذ ميول العنف والاقتتال، ونجحت في ذلك لدرجة
كبيرة، كما أثبتت ذلك مشاركة أوسع أوساط المجتمع العراقي من جميع الأديان والمذاهب والشرائح والأطياف في الاستفتاء على الدستور وفي انتخابات 15/12/2005. وكان للقيادة
الكوردية دورا بارزا في تحديد انتشار وتقليل تعميق الصراع الطائفي وجعله أقل وطأة ومنع تحوله إلى حرب أهلية مدمرة للجميع. أما دورها التوفيقي والتوافقي في تضييق الخلافات
والعمل مع الجميع للوصول إلى توافق واسع بين كل الإطراف المشاركة في مفاوضات إقامة الحكومة الجديدة فقد أثمرت عن تشكيل حكومة وحدة وطنية ذات قاعدة سياسية عريضة. هذه
المواقف الحكيمة والأدوار الايجابية وبناء الجسور مع كل القوى السياسية وبين جميع الإطراف المعنية هدفها خدمة العراق وشعب العراق ككل، أي أنه عامل جمع شمل لا تفريق صفوف،
وهو عامل استقرار لا زعزعة أوضاع، وهو عامل وحدة لا تقسيم أو انفصال.
- وعلى مستوى كوردستان فقد بدأت المرونة وبُعد النظر والحصافة السياسية التي بينتها القيادة الكوردية تنتج أولى ثمارها التي يراها الشعب الكوردي وينتظر ألمزيد منها. ومن
بين أهمها التعاون والانسجام والتنسيق، وانتخاب رئيس دولة كوردستان الإقليمية، واختيار رئيس وزراء ونائب رئيس وزراء الإقليم وتشكيل مجلس الوزراء الموحد، الذي يتكون من
أربيعين وزيرا، ويضم في صفوفه أعضاء من تنظيمات سياسية كوردستانية متنوعة ومن أطياف شعب كوردستان ومن مكونات الشعب الكوردي في العراق ، جرى منحهم الثقة من قبل
برلمان كوردستان بصورة ديمقراطية تتصف بالشفافية وتتمتع بالشرعية الدستورية والقانونية. أدت هذه التطورات والتحولات الايجابية بدورها إلى ارتفاع هيبة ومنزلة وتأثير القيادة
الكوردية والحركة الكوردستانية والكورد بشكل عام في المجتمع الكوردستاني والعراقي وعلى الساحة الإقليمية وفي المحافل والدولية. كان من بين نتائجها الملموسة على الساحة العراقية
انتخاب قائد سياسي كوردي رئيسا لدولة العراق الفدرالي ثم انتخابه ثانية لرئاسة الجمهورية لأربع سنوات أخرى، كما كان من بين أولى نتائجها الملموسة على الساحة الدولية الزيارة
الرسمية لرئيس دولة كوردستان الإقليمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية واستقباله رسميا من قبل الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، وعلى الساحة الإقليمية زيارة وفد رئاسة الإقليم إلى
دولة الكويت الصديقة. والزيارة الرسمية لوفد رفيع المستوى من الكونغرس الأمريكي إلى إقليم كوردستان في 31/5/2006 ولقاءاته مع رئيس دولة الإقليم ورئيس برلمانها ورئيس
وزرائها.
- أما على المستوى الكوردي ألفيلي فقد تم عقد كونفرانس أربيل (هولير)، في بداية شهر كانون الأول 2005، الذي خرج ببيان وبتوصيات تنتظر التنفيذ من قبل لجنة متابعة
تنتظر التشكيل بعدد ينتظر التحديد. وأجرت القيادة الكوردية لقاءات مع كورد فيليه في بغداد للاستماع لمطالبهم والاستفسار عن تطلعاتهم. وتضمن البرنامج الانتخابي لقائمة التحالف
الكوردستاني للسنوات الأربعة القادمة فقرات حول الكورد الفيلية وحقوقهم. ويضم مجلس الوزراء الموحد لدولة كوردستان الإقليمية عددا من الكورد الفيلية، ثلاثة منهم من المناطق
الكوردستانية التي ليست ضمن إدارة الإقليم لحد ألآن (اثنين من أهالي خانقين وواحد من أهالي مندلي) ووزيرة من أهالي بغداد. كما أشار السيد رئيس دولة كوردستان الإقليمية والسيد رئيس
وزرائها إلى أهلهم وأخوتهم الكورد الفيلية في خطابيهما أثناء مراسيم تنصيب مجلس الوزراء الموحد. يلاحظ وجود وزارة "شؤون المناطق خارج كوردستان" وغياب مسألة "شؤون الكورد
خارج كوردستان"، الكورد القاطنين في مناطق العراق الأخرى، وشؤون الكورد العراقيين الذين هجرتهم الأنظمة السابقة وألقت بهم خارج الحدود، والكورد من كوردستان ومن خارج
كوردستان الذين اضطروا إلى ترك العراق لأسباب سياسية أو أمنية أو اقتصادية.
لقد بين هذا السرد المقتضب إن لدى الحركة السياسية الكوردستانية وقيادتها المرونة والاستعداد لقبول التغيير والتطور مع المتغيرات والأحداث المصيرية المستجدة والقدرة على اتخاذ
الخطوات ألمؤدية إلى التقدم للوصول إلى مستويات أعلى من التطور والنضوج السياسي وتحقيق "طفرات" نوعية وكمية في العمل السياسي، وقد تحقق ذلك في ظل القيادة الكوردية، السيد
جلال الطالباني رئيس دولة العراق الفدرالية (الاتحادية) والسيد مسعود البرزاني رئيس دولة كوردستان الإقليمية، التي تحولت من "سياسيين" إلى "رجال دولة"، مما جعلهم أعلى منزلة وأكثر
تأثيرا، كوردستانيا وعراقيا وإقليميا ودوليا، واكتسبوا احترام وثقة الأطراف الكوردستانية والكوردية والعراقية وحازوا على الاعتراف الدولي.
يحتاج العراق الاتحادي ألتعددي أليوم أكثر من أي وقت مضى إلى "رجال دولة" وليس إلى "سياسيين" فقط، كي يتم ترسيخ الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان وتحقيق المساواة بين سكان
العراق جميعا في جميع المجالات والأماكن دون تمييز أو تفرقة، ولأي سبب وبأي مبرر كان، لاستكمال وتثبيت دعائم دولة القانون وأسس المجتمع المدني، واعتماد التجارب الديمقراطية
الناجحة لدولة كوردستان الإقليمية وللدول المتقدمة كبوصلة عند التطبيق وللمساعدة في حل المشاكل العالقة في العراق التي تنتظر الحلول أو تنتظر وضع الحلول المتفق عليها موضع
التنفيذ، ولوضع حد للإرهاب العشوائي القمعي والاحتقان الطائفي الدموي والتسابق الحزبي الساخن، الذي يعكس المنافسة الفئوية المتشددة والصراع السياسي المتشنج والمصالح "المحلية"
المستقطبة، التي تحصد يوميا عشرات الضحايا في "معركة بغداد" لوحدها، وللتمكن من تقديم الخدمات الأساسية وإعادة بناء البني التحتية وأعمار وتطوير البلاد. إن حل كل هذه القضايا
والمشاكل الجسيمة والصعبة والمعقدة يتطلب من سياسيي جميع الإطراف العراقية نفس الحصافة والحكمة والمرونة السياسية والتسامح ونبذ عقلية الانتقام، يتطلب استخدام ألأساليب
وألاعراف والإجراءات الديمقراطية، الدستورية والقانونية التي يراد غرسها ورعايتها وإنمائها، وليس الوسائل والعقليات والممارسات "الدكتاتورية"، الاعتباطية والصورية المعتادة التي يراد
قلعها وعدم العودة إليها رغم الصعوبات الجسام التي تعترض تحقيق هذه الأهداف المرجوة.
د. مجيد جعفر
1/6/2006
ملاحظة 1: "السياسي" شخص يعمل ضمن حزب سياسي أو يتسنم منصبا سياسيا حكوميا، أما "رجل الدولة" فهو سياسي يحظى بالاحترام والقبول العام يبين المقدرة والخبرة والمراس على
توجيه شؤون الدولة والحكم والحنكة والحكمة في التعامل مع الشؤون العامة والأمور المهمة.
ملاحظة 2: تحتاج التطورات الايجابية والتحول النوعي في الحركة السياسية الكوردستانية وأمثالها إلى دراسات تهدف إلى تقييم تجاربها الناجحة لغرض معرفة أسبابها والعوامل التي أدت
إليها والنتائج التي تمخضت عنها والدروس التي يمكن استخلاصها منها لتعميمها للنفع العام. الكتاب والسياسيين الكورد بصورة عامة يميلون عادة إلى دراسة حالات النكسة والفشل والتراجع
(الحالات "السلبية") وغرضهم من ذلك هو محاولة تقييمها – وليس للقدح أو الذم أو التشهير – لتشخيص الأسباب التي أدت إليها من أجل العمل على تجنبها والتشجيع على منع أو تحديد
وتقليص تكرارها (كما حصل بعد نكسة 1975 وفي أوقات الاقتتال الداخلي) للفائدة العامة، كل من وجهة نظره، ويميلون لدرجة أقل إلى دراسة حالات النجاح والتقدم وتحقيق المكاسب (
الحالات "الايجابية") بغرض تقييمها – وليس للمدح أو الثناء أو التطبيل – لتشخيص أسبابها من أجل تعميمها وتحقيق المزيد منها للنفع العام، كل من وجهة نظره أيضا. وقيل "رحم الله من
قال لمن أحسن أحسنت ولمن أساء أسئت"