هل ماتت كل الضمائر العراقية؟!

لا نعرف من أين نبدأ ومن أي جانب يمكن تناول الوضع العراقي الراهن! ترى أولا هل يحتاج إلى توصيف؟! العالم كله يشهد عراقا مستباحا تسوده شرعة القتل وقطع الرؤوس، والنهب والفساد.. شرعة اغتصاب النساء والتمثيل بالجثث.. شرعة التهجير الطائفي، والاحتراب الطائفي الساخن.. شرعة انفلات قوى الإرهاب المجرمة والمليشيات التي يتقاضى الفرد في بعضها ضعف راتب الجندي أو الشرطي. عراق يرقص فيه الهمج، وكما رأينا في الفلوجة، على جثث محترقة وكل منهم وكأنه طاغية روما نيرون، وحيث يستقبل فيه الهمج والرعاع وصبية مخدوعون فرق الإنقاذ بالحجارة وهم يصرخون "عاش جيش المهدي"، كما حدث منذ أيام في البصرة. وماذا يقول الكاتب الوطني المستقل عن هذه الأزمة الوزارية المستفحلة والتكالب على المناصب، والمطالبة بمكافأة بطل السجون السرية بتعيينه في نفس منصبه! وماذا عن إيران المجاورة التي تقصف المدن العراقية مرارا وتهرب الصواريخ بينما ينبري رئيس البرلمان العراقي للتصدي لكل طلب بتقديم احتجاج!
أجل هو عراق مستباح من عصابات القاعدة وأموال خليجية تمولها، ومن عدوان سوري ـ إيراني متكرر ومتعدد الأشكال، ومن هذا التحالف الإجرامي بين القوى الصدامية والزرقاويين المدعوم خارجيا. هو عراق يمكن أن يسأل المرء عما إذا كان صدام قد عاد حاكما عليه!
السؤال المحير هو هل ماتت كل الضمائر في العراق؟ هل أكثرية المواطنات والمواطنون يرتاحون لمنظر الدم، ومصابون بالكره الطائفي الذي تبثه وتشجعه أحزاب وأطراف سنية كما شيعية؟ هل جميعهم راضون عن رجال دين تركوا الدين ليصبحوا قادة سياسيين يتدخلون في الصغيرة والكبيرة من حياة المجتمع وشؤون السياسة؟
في هذا الظلام الدامس والمطبق، ثمة أخبار ومعلومات تشير إلى أن أكثرية العراقيين الصامتين والمغلوب على أمرهم يستنكرون مع أنفسهم ويستغربون ويحاولون التشبث بتقاليد التعايش المذهبي والعرقي والديني التي كانت هي الغالبة في معظم مراحل العراق الحديث. ثمة ما يدل على أن الضمير العراقي المكبوت لا يزال حيا ولكنه مقهور من الإرهابيين والمليشيات ومن رجال الدين.
قبل أيام تلفن لي صديق من لندن حادث شقيقته العجوز في مدينة عراقية جنوبية نائية مختلطة مذهبيا، سائلا عن أحوالها وعما إذا كانت علاقات التعايش بين أفراد الطائفتين قد تغيرت.
فأجابت أن جيرانها الشيعة يواصلون زيارتها كالسابق ويساعدونها عند الحاجة. صديق آخر (شيعي) من السويد نقل لي الشيء نفسه عن أمه الساكنة في منطقة من بغداد يغلب فيها عدد السنة، بل وقالت إن عندما تمرض فإن ابن جارتها (السني)، يأخذها بسيارته للطبيب ويرجعها. سمعت التطمينات نفسها من قريب شيعي وصديق سني في لندن وباريس ومن مسيحية تسكن عائلتها في الكرادة الشرقية.
أما أغرب خبر من العراق المستباح، الذي هيمنت عليه ممارسات العنف البربرية، وحيث كل يوم عشرات الجثث ما بين مفصولة الرأس أو مقيدة مات أصحابها بعد التعذيب، هو خبر نقلته رويتر قبل يومين من بغداد عن زوجين يرعيان عددا كبيرا من القطط ! المرأة لا تنجب، وذات يوم عادت للبيت بعد غياب أسبوع لترى قطة مع صغارها تحتل إحدى الغرف. أرادت طردهم ولكنها توقفت حين رأت كيف ترعى الأم صغارها وتحن عليهم. تقول إن غريزة الأمومة ثارت فيها فقررت استضافة القطط وهي اليوم ترعاها لأنها تسد شيئا بسيطا من فراغ أطفال تنجبهم؛ تقول أن لا شيء يسد محل طفل تنجبه وحتى لو تبنت طفلا. إن ما استوقفني في الخبر ضمير إنساني يعطف على حيوان ضعيف في بلد القتل اليومي، وإذ الحفاظ على حياة المواطن قد صار منتهى الهموم، وحتى قبل الكهرباء والماء "المرحومين" كما نعاهما كاتب مجهول! إن غريزة الأمومة أنبل وأسمى الغرائز البشرية. فهل يفهم برابرة اليوم في العراق لوعة أم اغتيل ابنها أو قتل بمفخخة صدامية أو زرقاوية؟! بالطبع لا. كما لا يريد فهمها الجيران و"الأشقاء" المرعوبون من كل تغيير ديمقراطي في العراق والمنطقة. لكن، ما بال خصوم بلير والديمقراطيين الأمريكان واليسار الغربي الذين لم تهزهم دموع وصرخات النساء العراقيات وهن يبحثن عن بقايا جثث المقابر الجماعية فيواصلون العربدة السياسية والإعلامية ضد حرب تحرير العراق؟
أجل، نعتقد أن في عراق اليوم أغلبية صامتة لأنها مع الأسف مقهورة ومغلوبة على أمرها، لا تزال تحتفظ بعواطف وضمائر إنسانية، وترفض كل ما يقوم به الساسة والحكام والأحزاب، الذين يتهافتون على المناصب بينما الوطن في محنة كبرى، والشعب في مآسي مستمرة.

عزيز الحاج
10 أيار 2006