مشاهد فيلية - الثامن من أيار 1977

يوم الشهيد الفيلي

لم يعد ابنها الذي لم يبلغ من العمر بعد 15 ربيعاً، ذهب ذلك اليوم الى المدرسة ليعرف نتائج "السعي السنوي" الذي كان سيؤهله لدخول امتحان المرحلة المتوسطة. طمأنها بناتها بانه ارسل خبراً انه سيبيت في منزل شقيقته المتزوجة، وبدى ذلك غريباً لها، ولكنها حاولت ان تقنع نفسها به .

كانت الاخبار قد وصلت الى العائلة حول اعتقاله من باب المدرسة وحاولوا اخفاء ذلك عن الام لانهم تصوروا انها مسألة سوء فهم، لمعرفتهم بحسن سلوك ابنهم وليس هناك ما يمكن ان يبدر منه يستوجب عليه ايقافه او اعتقاله.

الموجودون في قسم الاحكام الثقيلة، في سجن ابو غريب المركزي ببغداد، لم يناموا تلك الليلة من صوت مقصلة الاعدام التي كانت تواصل عملها.

أنتشرخبر أعدام كوكبة من خيرة أبناء الشعب العراقي في سجن ابو غريب. تتألف من 360 بطلاً من كل القوى السياسية العراقية، حيث كان بينهم 228 شهيداً من الحركة الكوردية، 36 شيوعياً والباقون من التيارات الاسلامية المختلفة.

في اليوم الثاني عاد أبن اخرللعائلة من وحدته العسكرية في اول زيارة لاهله منذ التحاقه بالخدمة العسكرية منذ اكثر من ثلاثة اشهر فاعتقل هو الاخر عندما ذهب الى المحل المجاور للبيت لشراء بعض الحاجيات.

الاشهر التي تلت تلك الحوادث، لم تترك الام باباً لم تطرقه بحثاً عن ابنائها وسبب اعتقالهم. رفعت رسائل الى كل الجهات الامنية والشرطة والجيش لتعرف ذلك ، ولكن الجميع انكروا حتى وجودهم لديها، واخيراً اخذها احدهم جانباً وقال لها" خالة عندج احد يوصل يم السيد النايب"، في أشارة لصدام حسين الذي كان في حينه يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية، فقالت "ليش أبني؟" .فأجابها" لانهم محجوزون بأمر مباشر منه وهم لا يتبعون لاي جهه ، وقضيتهم لن تحل سوى من قبله.

يومها زاد قلقها ، كانت قد سمعت عن جهاز حنين وهوجهاز استخبارات تابع لحزب البعث، كان ينفذ الاغتيالات السياسية، وكذلك سمعت ان صدام يرأس ذلك الجهاز، ولكنها ما لم تفهمه هو صلة ابناءها بكل ذلك وهم صغار بالسن، ولم يسبق لهم اي عمل في السياسة ، رغم اعتزازهم بانتمائهم القومي. جهدت اكثر لمعرفة المزيد ، ولم يثنها اي شئ من مواصلة سعيها لمعرفة التهمة الموجهة اليهم. وببساطة عرفت اخيراً والاجابة من خال النائب المقبور خير الله الطلفاح، انهم اكراد معادين للسلطة؟؟؟ وكيف تم تحديد ذلك عبر التقارير المرفوعة من المنظمة الحزبية في منطقة سكناهم؟؟؟

وانقضى أكثر من عامين من ذلك اليوم ، كان لوالدهم رحلة يومية يقوم بها مرتين. الى الطابق النصفي في مركز شرطة العبخانة. لانه بعد وساطة عرف ان ابنه الاصغر محجوز في ذلك الطابق.

البناية كانت تضم مركز شرطة العبخانة في الطابق الارضي، وتحتل شرطة مكافحة الاجرام الطابق الاول والامن الطابق الاعلى.

وضعوا في ذلك الطابق الذي لم يكن عملياً يتبع لاي من التشيكلات الثلاث الانفة الذكر. وانما كان تابع لجهاز صدام التصفوي بشكل مباشر ويشرف عليه المدعو سعدون شاكر.

بينما كان ابنهم الثاني قد حجز في سجن في معسكر الوشاش ببغداد؟؟؟!!! وكان من صعوبة جداً مواجهته، وربما عدد مواجهتهم له، لم تتعدى زيارتين او ثلاث طوال فترة احتجازه والتي امتدت لاكثر من سنتين ونصف. كانت تتم تلك المواجهات تحت مراقبة شديدة من قبل سجانين لا تقل عددهم عن 6 افراد على كل محتجز، وعلى الارجح كانوا من قوى الامن الخاص.

من المواقف الاشد حزناً، انه كان هناك ضمن المحجوزين من الفيلية، ابن وحيد لأرملة اجهدت في تربيته وكان هو واخته كل ما خرجت به تلك المسكينة من حطام الدنيا. أعتقل تحت أسم مغاير لأسمه. وعندما كانت تبحث عنه بأسمه الحقيقي يقولون لها أن هذا الشخص غير موجود لدينا، وعندها كانت تضطر لتذكر الاسم الذي ينادوه به منذ أعتقاله ، ويبدو انه أعتقل أشتباهاً ولكن واجهه نفس المصير.

رتب البعض زيارة لوالدهم مع "صدام حسين" الذي اصبح رئيساً للجمهورية بعد ان ازاح من طريقه كل من ساعدوه لتحقيق ذلك. لا نتحدث هنا عن اجراءات التي مر بها حتى وصوله اليه. ولكن كانت نتيجة اللقاء وعداً بأن يعادوا الى عوائلهم مع أطلالة العيد. بعد أن ذكره "صدام" بالشيم العربية بالنخوة وخاصة عند الالتماس.

تهيأت العائلة ليكون عيدها عيدين، وهيأت الذبائح للمناسبة.

في أحدى معاقل الفاشية اجمع كل من سيشمله "مرحمة" رئيس الجمهورية وكان عددهم يقرب من 120 شخصاً وبضمنهم وزراء في حكومات سابقة. فوفروا لهم غذاء فاخر وعناية خاصة ، وفي نهاية اليوم، كان يأتي طبيباً خاصاً يكشف عن صحتهم من خلال فحص عيونهم.

وجاء العيد فأطلق سراحهم.

لم تكتمل فرحة الاهالي بأبناءهم، لانه سرعانما ظهرت عليهم أعراض غريبة بدأت بآلام وصداع شديدين، وتدهورت حالتهم بسرعة فائقة ولم يسلم اي منهم من الموت، الا حالة وحيدة عاش صاحبها كسيحاً ليكون شاهداً لتلك المذبحة التي استخدم فيها المواد الكيمياوية لتسميمهم، حيث تم الكشف عن ذلك من خلال الحالة الوحيدة التي وصلت الى بريطانيا، ولكن رغم محاولات الاطباء البريطانيين لم يستطيعوا انقاذه، لان المواد السامة كانت قد قتلت خلايا الدماغ وخلايا حية أخرى في الجسم تسيطر على وظائف الاعضاء.

لم تفقد العائلة الفيلية ابناءها الاثنين فقط، فمع استشهاد الاول سقطت الام مغشية عليها ولم تعد الى الحياة قط . بينما وفاة الثاني بعد اسبوع كان كافياً ليقضي على حياة الاب أيضاً. وسيق بقية الاخوة والشباب من الاقارب الى السجون لانهم ببساطة تجرؤا وأقاموا مجلس فاتحة.

في شهادة وفاة الضحايا كتب عن سبب الوفاة . الأصابة بمرض السحايا؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!

فتحية اجلال وأكبار لكل شهداء الكورد الفيلية في يومهم هذا يوم الشهيد الفيلي، وتحية لكل شهداء كورد وكوردستان، وتحية لكل شهداء العراق. والخزي والعار لقتلتهم.

د. منيرة أميد
omed397@yahoo.com

المصدر: صوت العراق، 9/5/2006