رحيل المفكر الليبرالي المتمرد .. جان فرانسوا ريفيل

في الثلاثين من نيسان المنصرم توفي عن 82 عاما الفيلسوف والأكاديمي والناقد الفني الفرنسي ريفيل، صاحب الثلاثين مؤلفا مثيرا للجدال والتأمل.
لقد كنا قد توقفنا قليلا لدى هذا المفكر الليبرالي الجريء في مقالنا المعنون "عندما تعمى أوروبا بهوس العداء لأمريكا"، [20 مارس 2005 ]. كان مقالنا تعليقا على المظاهرات الجديدة الصاخبة لليسار الغربي ضد حرب تحرير العراق في ذكراها الثانية. وقد ذكرنا أن عقدة اليسار الغربي، والفرنسي على وجه الخصوص، هي العداء لأمريكا وكراهية عمياء لها، سياسة ونظاما ومجتمعا وثقافة. وكان جان فرانسوا ريفيل قد أصدر عام 2002 آخر كتبه وأهمها تحت عنوان " وسواس العداء لأمريكا"، حيث ناقش على أساس الحقائق والوقائع والأرقام المواقف الأوروبية المتشنجة، ولاسيما اليسار، واليسار الفرنسي بوجه أخص، من الولايات المتحدة وكل ما تفعله. وقد استعرض الكتاب في حينه كل من جورج طرابيشي وهاشم صالح.
ناضل ريفيل في صفوف المقاومة الفرنسية ضد النازية، وكان في البداية قريبا من ميتران ثم ابتعد عنه لما اعتبره ضيق أفق اليسار وروحه المحافظة.
طوال المسيرة الفكرية وفي كل كتاباته الصحفية ومؤلفاته الكتابية دافع ريفيل عن الليبرالية والفكر الحر، لا من موقع يميني بل من موقع يساري مستقل، وكان يرى أن اليساري هو من يدافع عن الحقيقة وحرية الفكر واستقلاله، متحررا من جميع أنواع الدوغما والأفكار المغلقة فكتب: " أن تكون يساريا هو أن تناضل من أجل الحقيقة والعدالة الاجتماعية، ولا مخرج لليسار الفرنسي ما لم يعترف بأن ونستن شرشيل كان أقرب لليسار من جوزيف ستالين"، وكان من رأيه أن ستالين عدو للشيوعية نفسها.
أصدر عام 1957 كتابه الهام "لماذا الفلاسفة؟"، أي لأي غرض. هناك ناقش العديد من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين وطرح رؤيته هو للفلسفة والفن والحياة، وكتب أن على الفلسفة أن تعود إلى سؤالها التأسيسي، ألا وهو كيف يجب أن نعيش. وكان ريفيل يرفض فلسفة ديكارت وينتقد المواقف السياسية لبول سارتر مع الاعتراف بأنه كان عبقريا. أصدر بعد ذلك كتابه " لا ماركس ولا المسيح"، ثم كتبا كثيرة أخرى، منها كتاب رائع عن إيطاليا التي أحبَها وكان يحاضر فيها، مثلما حاضر في الجزائر وبلدان أخرى. كل هذا مع انشغاله بالعمل الصحفي في مجلة الأكسبرس ثم في مجلة لوبوان. كان ريفيل صديقا لأندريه بريتون، المفكر والشاعر السوريالي الشهير ومعجبا به، كما كان معجبا بالروائي أندريه جيد، صاحب "السيمفونية الريفية" التي ترجمها طه حسين في أواخر الحرب العالمية الثانية، وكان صديقا لماريو فارغاس ليوسا، وأدباء ومفكرين غيرهم، وفي نفس الوقت له زملاء من بين المزارعين والصيادين وبائع نبيذ بلجيكي وبائع خضر وفواكه تونسي، وغيرهم من المواطنين. كتب مرة:" صادفني عدد كبير من الأشخاص الرائعين الذين لم يصبحوا مشهورين، وكثيرون من المشاهير الذين لم يكونوا رائعين أبدا." وفي تفكيك الفكر الفرنسي قد كتب ريفيل مرة:
" لكي نفهم فرنسا، فعلينا أن نعرف أن الكاتب والأكثر تأثيرا في الفرنسيين ليس جيد ولا بريتون، بل سان أكزوبري، الرجل المخدوع الذي أحل محل دماغ الإنسان ماكنة طائرة، والذي بين للفرنسيين بأن حماقة لفظية تصبح حقيقة راسخة فيما لو غرزناها في التربة لترتفع إلى 7000 متر." وفي مكان آخر كتب أن شاشة التلفزيون هي الدماغ الذي يفكر للفرنسيين. والواقع أنه كان شديد النقد للسياسة والمجتمع الفرنسيين، ساخرا من "النرجسية الفرنسية"، وعقيدة "الفرادة الفرنسية"ـ "الفرادة" في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وفي الثقافة"، مستشهدا بالبطالة الواسعة، وهيمنة صلاحيات رئيس الجمهورية، ونزعة المحافظة ورفض التغيير والإصلاح؛ كما أدان مرارا أساليب العنف التي تستخدمها نقابات العمل وجمعيات الطلبة في إضراباتها ومظاهراتها، والاعتداء على حرية العمل وحرية التعليم. وهذا ما كشفت عنه مجددا الحركة الطلابية الأخيرة، من رفض للإصلاح، ومن منع الطلبة الراغبين في الدراسة من دخول الجامعات والمدارس الثانوية. وكانت الحركة الطلابية عام 2000 قد أجبرت كلود أليكر، وزير التعليم الاشتراكي على الاستقالة لأنه قدم مشروع قانون لتحسين الحالة الأمنية في المدارس، فضغط البرلمان زمن الاشتراكيين لكي يستقيل، فكتب ريفيل:
" أجبروه على الاستقالة لا لأخطائه بل لفضائله." كان يعتبر التعليم الفرنسي فاشلا والحكومة لا تنفق على الجامعات والمستشفيات المبالغ اللازمة لتطويرها؛ وقد كتب عام 1993: " إن الخطر على الإصلاحات، في الغرب كما في الشرق [ أي الأوروبيين]، لا يأتي من عودة ماركس بل من الشعبوية القومية والفوضوية والديماغوغية." وقد فرّق في كتابه "وسواس العداء لأمريكا" لعام 2002 بين كراهية اليسار الأوروبي لأمريكا وبين كراهية الإسلاميين، الذين هم أصلا ضد الحضارة وقيمها ومثل حقوق الإنسان والديمقراطية. وكان ريفيل شديد الحذر من الأديان، معتقدا أنها غير متسامحة مع الآخر.
أحب جان فرنسوا الشعر والموسيقى والسينما ونشر مجموعة خاصة بالشعراء الفرنسيين، وكتابا يدافع فيه عن الشعر. وعن السينما، فند منطق اليسار حول أسباب تخلف السينما الفرنسية بالمقارنة مع السينما الأمريكية، وتفسيرهم ذلك بضخامة معونات الدولة للسينما الأمريكية، فقال إن السينما هي أولا موهبة الإبداع والخيال. وكانت السينما الفرنسية نفسها ذات يوم في الطليعة، ثم السينما الإيطالية برغم محدودية معونات الدولة. ورد على القائلين إن السينما الأمريكية لا تنتج أفلاما عن الفضائح المدوية عنهم، وقال إن السينما الأمريكية انتجت عن واتر غيت أفلاما عديدة في حين لم نجد فيلما فرنسيا عن كبريات الفضائح المصرفية والنفطية الفرنسية. وقد انتقد بشدة مقولة "الغزو الثقافي الأمريكي" لأوروبا، ومن مظاهرها في رأيهم توسع انتشار اللغة الإنجليزية. لكن ألم تكن الفرنسية هي لغة الدبلوماسية السائدة في القرن التاسع عشر؟ فلماذا لم يكن ذلك غزوا ثقافيا؟! إن في كل عصر مجتمعا متميزا يمكن اعتباره "المجتمع المختبري"، حيث تتفاعل الأفكار والهموم الخاصة بحضارة العصر. كان هناك مثلا أثينا القديمة وبريطانيا الثورة ثم فرنسا التنوير؛ أما اليوم فإن المجتمع الأمريكي هو ذلك المختبر الذي تولد فيه طلائع الابتكار وأفكار التقدم.
تناول ريفيل شؤون المجتمع الفرنسي، وفضح ثقافة تبرير اليسار لجرائم المراهقين والشباب، بحجج اجتماعية أو نفسية مما أدى لانتشار الجريمة وتهديد الأمن، وأدان الدفاع المستتر عن الإرهابيين فما أن يعتقل أحدهم حتى تقوم تنظيمات وحملات للدفاع عنه. وفي الإعلام الفرنسي لا نجد أبدا كلمة "إرهابي" مقترنة باسم الموسوي بل يتكلمون دوما عن "الفرنسي الموسوي." وعالج ريفيل مرارا ظاهرة المزارع جوزيه بوفيه، الذي قاد مظاهرات الهجوم على محلات الهمبرغر، وكيف صار بطلا شهيرا عند الفرنسيين، وعندما قدم للمحاكمة بسبب قيادة التفجيرات التي أدت لمقتل مواطنة آمنة، هب الإعلام للدفاع عنه، وضيقوا في مقابلة تلفزيونية على القاضي محاولا إجباره على صرف النظر بحجة مضار العولمة وأخطارها على الزراعة، وغير ذلك من حجج متهافتة. قال ريفيل:
" بدلا من مواطن اسمه توكفيل لدينا اليوم جوزه بوفيه." وتوكفيل كاتب فرنسي زار الولايات المتحدة في أوائل القرن التاسع عشر وأعجب بالديمقراطية ومركز المرأة هناك والقضاء هناك مع ملاحظات انتقادية، وعندما رجع لفرنسا أصدر كتابا شهيرا عن أمريكا. وكنا في المقال المشار إليه قد أوضحنا رأي ريفيل عن العولمة والمظاهرات المعادية كل سنة وأعمال العنف التي ترافقها، كحرق السيارات، والهجوم على البنوك الدولية والمخازن الكبرى، وفي عام 2000 الاعتداء على تمثال شرشل، فكتب ما هي العلاقة يا ترى بين رفض العولمة وهذه الأعمال التي تشبه ممارسات النازية؟!
انتقد ريفيل السياسات الخارجية الفرنسية وخصوصا الصمت عن انتهاك حقوق الإنسان في دول كثيرة لفرنسا علاقات وثيقة بها. وفي عام 2000 عندما طرد صدام فرق التفتيش الدولية رد في كتابه الجميل "أطباق الموسم" على دعايات اليسار واليمين الفرنسيين على السواء من أن المشكلة هي العقوبات، متناسين ان العقوبات فرضت لغزو الكويت، وأن تصدير النفط العراقي قد ازداد إضافة للنفط المهرب، وان صدام حسين لا يصرف من العائدات على حاجات شعبه غير نسبة قليلة لصالح مشاريع التسلح الجرثومي والكيمائي.
عند انضمامه للأكاديمية الفرنسية قال أحد زملائه في كلمته إنهم يحيون في ريفيل عشق الحكمة، والحرية، وعقيدة الصداقة، والحساسية الدينية. وكتبت مجلة لوبون في تأبينه: "أن لبراليته المتنورة جعلته يتفهم أمريكا ويعجب بها، وهذا فتح جديد في عالم المثقفين الفرنسيين"، وأن أعماله نموذج رائع للبصيرة الثاقبة وحياته درس للحكمة". وقد أشاد به حتى الساسة الذين كان ينتقدهم، ومنهم شيراك، ودوفيلبان، وكتاب كانوا على خلافات كبيرة معه. كما كتب رئيس الوزراء الإسباني السابق إيزنار أنه تعلم الشجاعة السياسية من جان فرانسوا ريفيل.
كان مثل سيبسرون وجان برنارد يجد في الشيخوخة حوافز للرضى، وقد نكتشف في الشيخوخة، كما يرون، مزايا إنسانية كنا نفتقدها من قبل. أخيرا، ومثلما قال:
"إن الكلمة الأخيرة ليست هي التي نعتقدها!"
هذا ولنا عودة للموضوع.

عزيز الحاج
7 مايو ـ أيار ـ 2006