حوار مع القراء (1)

أود بهذه المقالة، الإجابة على بعض الاعتراضات والتساؤلات التي وردت إلى صحيفة إيلاف على مقالتي (صمت المثقف جريمة) المنشورة بتاريخ 3/5/2006. كما ويمكن القول أن هذه التعقيبات تشير إلى المستوى الثقافي للقارئ ومواقفه السياسية، فمنها تشعرك أنك أمام مثقف محترف يرشدك إلى نقاط الضعف في المقالة وآخر يتفق معك، وثالث ناقد سلبي، القصد من تعليقه الطعن في الكاتب دون تناول مضمون المقال بنقاش هادئ ومفيد. وآخر يستغل الحرية المتاحة ورحابة صدر الموقع لنشر ما يريد من سفاسف لا علاقة لها بالموضوع. وفي هذه المداخلة أحاول توضيح موقفي من بعض الردود الاعتراضية التي تحتاج إلى توضيح. وفي نيتي مراجعة التعقيبات على مقالاتي السابقة واختيار البعض منها لمواصلة الحوار على حلقات، لما فيه من فائدة للقارئ والكاتب

1- يسأل القاري (Martin Salem): "أين كنت صامتاً وقت صدام حسين؟ "
يا سيد مارتن، لم أكن صامتاً وقت صدام حسين، وإذا كنتَ لم تسمع عني فهذا ليس ذنبي، بل ذنبك وربما لظروفك، لأنك لم تكن لتتابع نشاطات المعارضة آنذاك، إما لأنك كنت مع النظام أو لم تهتم بمعارضته، أو كنت معارضاً ولكنك كنت في العراق، وفي هذه الحالة فأنت معذور. أنا بدأت بالكتابة ضد نظام البعث وباسمي الصريح منذ الثمانينات من القرن المنصرم، في صحيفة (الغد الديمقراطي) لسان حال (التجمع الديمقراطي العراقي) الذي كان يتزعمه المرحوم صالح دكلة، وكانت تصدر من دمشق، وكنتُ عضواً ناشطاً في هذا التنظيم. وفي التسعينات انتقلت قيادة التنظيم إلى بريطانيا. كما وترأستُ تحرير الصحيفة المذكورة في أواخر التسعينات لمدة ثلاث سنوات، وتعمدت ذكر اسمي كرئيس للتحرير في الصفحة الأخيرة من الجريدة، كتحدي للنظام. وكانت الصحيفة منبراً للكتاب الديمقراطيين العراقيين في المنفى ومن مختلف الاتجاهات وأغلبهم كانوا من الليبراليين. ولما كثرت صحف المعارضة بعد الغزو الصدامي للكويت، شاركت في الكتابة في معظمها مثل: العراق الحر، بغداد، الوفاق، المؤتمر، الديوان ومجلة الموسم ومجلة الديمقراطي. وكذلك نشرت في الصحف العربية التي تصدر في لندن مثل:
الزمان والشرق الأوسط والقدس العربي. وأخيراً بدأت أنشر في مواقع الإنترنت عند ظهورها.
كذلك كانت إذاعة (العراق الحر) في براغ، تجري معي مقابلات قبل سقوط النظام بسنوات، إضافة إلى إني سافرت آلاف الأميال لحضور ومشاركة في عدد من مؤتمرات المعارضة وندواتها. كما وشاركت بمسيرة مظاهرة ضد النظام، حيث قطعت مرة أكثر من 550 كم للمشاركة في مظاهرة في لندن ضد النظام بمناسبة اغتيال الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر.
كل هذه النشاطات قمت بها وبدون أي تباهي، قبل وبعد سقوط النظام، وما كان بودي ذكرها لولا اتهامك لي بالصمت، وهي تهمة باطلة.
وكنا نوزع صحيفتنا (الغد الديمقراطي) بالبريد مجاناً، نعتمد على تبرعات الأعضاء والأصدقاء. ومعظم الكتاب لم يكن عندهم كومبيوترات آنذاك، فكانوا يرسلون مقالاتهم لي مكتوبة بخط اليد، وأقوم أنا بتنضيدها على الكومبيوتر بنفسي. ولم أنس طريفة حصلت لي مرة مع ابنتي ذات ليلة جديرة بالذكر. كنت أنضد مقالة على الكومبيوتر وكانت طفلتي تقف بجانبي تتأملني، وفجأة وجهت لي سؤالاً: " كم يدفعون لك مقابل هذا العمل؟" فأجبت: "لا شيء.. إنه عمل طوعي!". فاستغربتْ من جوابي قائلة: (أنت مجنون!!). فقلت: "ليس هذا فحسب، بل إضافة إلى عملي، أنا أدفع لهم لتغطية تكاليف طباعة وتوزيع كل عدد من الجريدة). فردت قائلة: (إذن أنت مجنون جداً!!). كان من الصعب عليّ إفهام طفلة في العاشرة من عمرها عن أهمية العمل الطوعي في هذه الأمور. فيا سيد مارتن، قد أكون مجنوناً في نظر طفلتي، إلا إني لست انتهازياً ولم أكن ساكتاً، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

2- أما القارئ (عقيل) فيعلق قائلاً: "صمت المثقف جريمة بدون شك عن اي قتل، لكن لماذا صمت عبد الخالق حسين عن كل جرائم الاحتلال؟؟؟".
يا سيد عقيل، أنا أختلف عنك في الرؤية السياسية في هذا الموضوع، إذ لا أشاركك الرأي بأن وجود قوات التحالف بقيادة أمريكا هو احتلال، بل هو تحرير، لأنه حصل بناءً على قانون أصدرته الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلنتون، استجابة لطلب المعارضة العراقية آنذاك والذي لعب المناضل الدكتور أحمد الجلبي دوراً مشهودا وبارزاً في كسب موافقة المجلسين، الكونغرس والشيوخ الأمريكيين، لصدوره وصوتوا عليه بالإجماع. وقام الرئيس جورج دبليو بوش بتنفيذ هذا القانون عام 2003. أما كون مجلس الأمن الدولي اعتبره احتلالاً، فقد حصل هذا بناءً على طلب من الولايات المتحدة نفسها لأسباب قانونية وذلك لغرض تحمل مسؤولياتها في العراق. وكما ذكرتُ في مقال سابق، أن هذه القوات قد ترتكب أخطاء والتي لا بد منها أن تحصل في هذا الوضع المعقد، وأضفت:(أما سقوط صاروخ أمريكي على وكر للإرهابيين ويذهب بعض الأبرياء ضحية نتيجة لهذا القصف، فالذنب يقع على عاتق أولئك الذين يأوون الإرهابيين في بيوتهم ويجعلون من عائلاتهم البريئة دون إرادتها، دروعاً بشرية للجناة). كما وذكرت بأن هناك فرق كبير بين الخطأ والجريمة. أما الجرائم التي قام بها بعض الجنود الأمريكان ضد بعض السجناء في سجن أبي غريب، فهذه تصرفات فردية ضد سياسة أمريكا والذي قام بفضحها، هو الإعلام الأمريكي نفسه وليس الإعلام العربي الذي سكت سكوت الشياطين الخرس إزاء جراء نظام البعث الساقط وما تقوم به الأنظمة العربية المستبدة ضد شعوبها. كما وعاقبت الإدارة الأمريكية الجناة. كما أرجو أن تقرأ مقالة الصديق الدكتور رياض عبد بهذا الخصوص: (ما هي دروس أبو غريب؟ ). لذا فوجود قوات التحالف بقيادة أمريكا في العراق هو لصالح الشعب العراقي، ومحاربة الإرهابيين واجبة لأنها في صالح العراقيين والعالم أجمع، لخلاص البشرية من شرور الإرهاب.

3- السيد (دجلة من بغداد) يعقب بانفعال: يا من تنعقون عبر المحيطات؟؟؟ تعالوا الى أرض الواقع ؟ لنشاهد ما أنتم فاعلون؟؟
اخترت هذا التعقيب لأنه يتكرر باستمرار، سواءً في تعليقات القراء أو الرسائل التي تصلني عبر البريد الإلكتروني، ولو بأساليب مختلفة، وحتى من بعض الأصدقاء والأقارب في الوطن.
خلاصة تعقيب السيد دجلة تفيد بأننا حالمون وننظِّر عبر المحيطات في أوربا وأمريكا، ونريد أن نغيّر الوضع في العراق بالريموت كونترول!! بينما هم تطحنهم المآسي. ".. لقد تركتم دياركم ؟شعوبكم تفترسها غيلان التخلف والارهاب؟ وأمنتم السلامه هناك في أبراجكم العاجيه؟ أيها المثقفون؟ أيها اللبراليون؟ أن لم تعودوا وتواجهوا وتساهموا بحل معضلات بلدانكم؟؟؟
ستبقى طروحاتكم جمل وكلمات أنشائيه لاتسمن ولاتغني عن جوع؟ لقد تركتم الساحه للمهرجين والجهلة؟ التاريخ كتب على أرض الأوطان وليس عبر المحيطات ؟؟؟".
يا سيد دجلة، لو كان وجودنا على أرض الوطن يساعد على حل المعضلة العراقية وينهي الإرهاب الفاشي، فنكون حقاً مجرمين إن لم نأت ونساهم بهذا الحل. ولكننا نعلم علم اليقين، أننا لو كنا في الداخل لما تمكنا من طرح المحنة العراقية بهذه الحرية وبهذه الصورة. ودليلي على ذلك هو أنك تحفظت حتى من ذكر اسمك الصريح وتخفيت وراء اسم مستعار طلباً للسلامة من الأشرار، وحسناً فعلت وهو من حقك. كما ولي صديق في بغداد ساهم بعدة مقالات قيمة في الأشهر الأولى من التحرير، ورغم أنه كان يكتب تحت اسم مستعار، إلا إنه توقف عن الكتابة بعد أن تلقى تهديداً بالقتل، وفعلاً تم اختطاف ولده ودفع فدية للجناة، واضطر إلى التوقف عن الكتابة، وحتى طلب مني أن لا أبعث له مقالاتي أو مقالات غيري. وهذا يعني أني لو كنت في العراق لما استطعت كتابة ما أكتبه الآن وأنا في الخارج، أي لتمسكت بالصمت. وهنا أود أن أوضح ما فاتني في المقالة السابقة، وهو أن صمت المثقف جريمة يتحمل وزرها هو إذا كان من اختياره ومن موقف انتهازي، أما إذا فرض عليه من السلطة أو عصابات الإرهاب، فهذه الجهات هي المجرمة في إسكاته.
كذلك جدير بالذكر، أن في عصر الثورة المعلوماتية، الفضائيات والانترنت، والقرية الكونية الصغيرة، فالذي بالخارج ليس أقل إطلاعاً على ما يجري في بلده من المقيم في الداخل، إن لم يكن أكثر إطلاعاً بحكم الحرية التي يتمتع بها وتوفر وسائل الاتصال له. إن مطالبتنا بالذهاب إلى الوطن أو السكوت، قول حق يراد به باطل. وهذا ما يريده الإرهابيون. فهم يريدوننا في الداخل لنكون طعماً سهلاً لهم للانتقام منا، أو إجبارنا على السكوت، وصمتنا يخدم الإرهابيين.
والسؤال الملح هو: ماذا يمكن للمثقفين الليبراليين تقديمه للشعب والوطن غير أفكارهم وفضح المسيئين له؟ إذ يمكن تقديم هذه الأفكار في أي مكان، سواءً كنا في الداخل أو الخارج. أجل، تصلنا رسائل ومكالمات من أصدقاء في الداخل يلحون علينا بالاستمرار في الكتابة، لأن كتاباتنا هي المعول عليها في نقد المسؤولين في السلطة وفضح الفاسدين في الإدارات وعصابات الجريمة المنظمة. وقال أحدهم إن مقالاتنا تستنسخ وتوزع بين الأصدقاء والمعارف وتعامل كما لو كانت نشرات سرية ويتداولون مضامينها في لقاءات خاصة أشبه بندوات صغيرة لمناقشتها. وهذا ليس بسبب الخوف من السلطة ولكن بسبب الخوف من عصابات الإرهاب من طالبان السنة والشيعة على حد سواء.
نحن، كمثقفين ليبراليين، لا نحمل البندقية ولا نعرف حتى استعمالها، وندين العنف ولغة الرصاص والقتل، نحن نملك فكراً فقط، بمعنى أننا نواجه الأشرار بأقلامنا. أما الإرهابيون البعثيون وحلفاؤهم الزرقاويون فيستخدمون البندقية والعبوات الناسفة لترويع الناس واغتيال المفكرين، كدليل قاطع على إفلاسهم الفكري والسياسي والإخلاقي. ولو كانوا على حق ويمتلكون فكراً مقنعاً لاستفادوا من الديمقراطية وحرية التعبير المتوفرة لهم في العراق الآن وجادلوا بالتي هي أحسن. ولكنهم يعلمون علم اليقين أنهم مفلسون. لذا نؤكد لك أن النصر النهائي هو لأصحاب الفكر التنويري الليبرالي وليس للقتلة. إذ كما قال نابليون: " لا يوجد في العالم سوى قوتان: السيف والعقل، وفي المدى البعيد سيُـهزَمُ السيف من قبل العقل".
4- تعقيب السيد سليم بعنوان (أوهام) فيسأل: كيف تكون هناك ليبرالية بلا طبقة سياسية ولا حريات فردية ولا تقاليد سياسية ولا اقتصاد حر ولا محكمة عليا ولا مصارف مكيفة لهذا الغرض؟؟ حديث الليبراليين العرب عن هذا الموضوع مثل حديث بائع سمك عن سمكة في البحر.

يا سيد سليم، (الديمقراطية ليست عملية سلق البيض) على حد تعبير الصديق شاكر النابلسي. إنها تأخذ وقت. كان نظام البعث الدكتاتوري الفاشي يشكل أكبر عقبة كأداء أمام الديمقراطية.
والمهم الآن أن شعب العراق بدأ رحلة الألف ميل بإزالة هذه العقبة، أي بإسقاط هذا النظام الفاشي. أن الشعور بخيبة الأمل الآن ناتج عن أن معظم الناس كانوا يتوقعون أكثر مما يجب (high expectation) بأن العراق سيتحول إلى جنة عدن بمجرد سقوط نظام صدام حسين، وهذا خطأ كبير. فالبعث قام بتدمير الإخلاق وتفتيت النسيج الاجتماعي وإعادة المجتمع إلى مرحلة ما قبل الوطنية وتكوين الشعوب، وقضى على شعور المواطن بالانتماء إلى الوطن، فولاء العراقي الآن لرجل الدين وشيخ العشيرة، كما قضى على الطبقة الوسطى، الطبقة الأساسية لنشر الديمقراطية وهيأ عصابات الموت قبل سقوطه بسنوات للقيام بهذا الإرهاب وعرقلة مسيرة البناء. وكانت الدولة في عهد صدام تتمثل في شخصه، تذكر مقولة ملك فرنسا، لويس الرابع عشر:"أنا الدولة والدولة أنا". وهذه المقولة تجسدت في شخص صدام حسين. فلما سقط صدام انهارت الدولة. لذلك قال صدام قوله المشهور: "إن الذي يحكم العراق من بعده يستلمه خرائب بلا بشر". ولكن بعزيمة المخلصين، سيخيب أمل البعثيين في تحقيق تهديد سيدهم ونبوءته السوداء. والعراق الآن في عملية بناء دولة جديدة تختلف كلياً عن دولة الطغاة. في هذه الدولة الديمقراطية ليس هناك مواطنون من الدرجة الثانية، بل جميعهم وبمختلف انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية هم مواطنون من الدرجة الأولى. لذلك يحارب فلول البعث وحلفاؤهم هذه الدولة الجديدة ويحاولون إجهاضها بمختلف الوسائل وبدعم من الخارج. كما ويصر أيتام النظام السابق من مثقفي كوبونات النفط إلقاء اللوم في هذه الفوضى والإرهاب على الأمريكان. ومع الأسف الشديد انخدع بعض الناس الطيبين بهذه الفرية فراحوا يشتمون الأمريكان لأن ليس هناك أسهل من شتم من حرروا العراق من هذا النظام الفاشي البغيض. ومهما يواجه الشعب العراقي من مصاعب وأعمال إرهابية، فإن النصر آت لا ريب فيه والمؤسسات التي ذكرتها وأهميتها في قيام نظام ديمقراطي، هي في طور البناء وتسير بخطى ثابتة.

5- تعقيب من القارئة (سليمة) على مقالي الموسوم (معاداة أمريكا... إلى أين؟) بعنوان: (مع الشيوعيين لا نعرف بأي رجل نرقص) جاء فيه: محنة الشيوعيين العراقيين انهم في كل يوم لهم حفلة ورقصة وبرنامج والدكتور الفاضل عبد الخالق هو واحد من وجوه مأزق المثقف العربي إذا كان الدكتور يعتبر نفسه عربيا مع انه كوردي فيلي وموقفه من العرب ليس نابعا من موقف نقدي بل من موقف قومي مغلف...".
من حق القارئة أن تتستر وراء اسم مستعار، وأغلب الظن أن أسلوب التعقيب هو أسلوب رجالي أكثر منه نسائي، ولكن هذا لا يهم ، بل تهمنا الفكرة المطروحة. إذ لا أدري لماذا يجب أن يتحمل الشيوعيون مسؤولية ما أكتبه وأنا محسوب على التيار الليبرالي. وإذا كانت القارئة تعتقد أني كنت شيوعياً في الماضي، فلماذا لا يجوز لأي إنسان تغيير قناعات تبناها في مقتبل عمره، بعد أن اكتسب خبرة أوسع خلال تجاربه الحياتية؟ إذ يقول فكتور هيجو بهذا الخصوص: " إنه لثناء باطل أن يقال عن رجل إن إعتقاده السياسي لم يتغيَّر منذ أربعين سنة… فهذا يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث… إنه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها…".
كما لا أعرف لماذا يعتبرون النقد شتيمة وبدلاً من تفنيده بالمنطق المقنع والحجة بالحجة، يلجؤون إلى إثارة الشكوك حول انتمائه القومي والعمل على اقتلاعه من جذوره القومية، إذ تقول القارئة: "... إذا كان الدكتور يعتبر نفسه عربيا مع انه كوردي فيلي وموقفه من العرب ليس نابعا من موقف نقدي بل من موقف قومي مغلف...". عجيب أمركم. وكيف عرفتِ أني كردي فيلي؟ مع احترامي للكرد الفيلية وهم عراقيون أصليون، قدموا الكثير من التضحيات في النضال الوطني وساهموا في إغناء الثقافة العراقية في جميع المجالات، ولي عدد كبير من أصدقاء الكرد أعتز بصداقتهم، ولكن الحقيقة أني لست كردياً ولا فيلياً، ولو كنت كذلك لما ترددت لحظة في الإعلان عنه وباعتزاز، كما أعتز بانتمائي العربي. ففي رأيي أن من حق كل إنسان أن يعتز بجميع انتماءاته القومية والوطنية والدينية والمذهبية والعشائرية والعائلية وإلى أصغر وحدة اجتماعية ينتمي إليها... الخ، ولكن بشرط، أن يكون بعيداً عن التعصب والهوس بهذه الانتماءات، وأن لا يحتقر انتماءات الآخرين وأن لا يكون ولاؤه لهذه الانتماءات على حساب انتمائه الوطني أو انتمائه الأوسع، ألا وهو الإنساني.
والجدير بالذكر أننا لا نجد هذا الهوس بالانتماء القومي والطعن بأعراق الآخرين (هذا عجمي وهذا هندي وهذا كردي...الخ) إلا عند العرب وبالأخص، العرب السنة العراقيين، وهذا دليل على الشعور بالدونية إزاء الآخرين. لأن الواثق من انتماءاته لا يطعن بانتماءات الآخرين. ثم لماذا تعتبرون الغرض من النقد هو الطعن بالأصول القومية. يقول رسول الله محمد (ص): " أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً." ولما سئل أنه مفهوم أن ننصر أخانا مظلوماً ولكن كيف ننصره ظالماً؟. فقال بأن ننصحه بتجنب الظلم. بمعنى اليوم، أن ننتقده ونوجهه إلى طريق الصواب.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يعتبر نقدنا هذا عدائياً و"نابع من موقف قومي مغلف". فمن المؤكد أنه لا يمكن لأمة أن تتقدم ما لم يكن النقد مباحاً. وأعود ثانية إلى فكتور هيجو الذي قال بهذا الخصوص: "واجب المثقف أن يسلط النور على بقع الظلام المعتمة ..على أوكار خفافيش الليل المختبئة هنا وهناك". ويقول ماركس: "النقد أساس التقدم." أنا أعتقد أن العرب يعيشون الآن في ظلام دامس من الجهل والتخلف ومبتلين بالفكر السلفي الذي يهددهم بدمار شامل، من واجب المثقف تنبيههم من مخاطره قبل فوات الأوان.

إن محاولة إنكار الانتماء القومي على المختلف سياسياً ومذهبياً وفكرياً، مرض متفش عند بعض العرب السنة وخاصة في العراق، حيث كانوا يتهمون العرب الشيعة بانهم أعاجم والرتل الخامس للفرس المجوس.. والآن تفتقت عبقريتهم بمصطلح جديد وهو (الشيعة الصفوية). وهذه اتهامات هي أسلحة جاهزة لرمي كل من يختلف معهم في التفكير السياسي وتصفيته. أيها السادة ليس هناك قومية أفضل من قومية أخرى ولا إنسان أفضل من إنسان آخر إلا بقدر ما يقدمه هذا الإنسان من عمل الخير لبني آدم (الإنسانية). إذ كما قال المفكر الخالد علي الوردي:
"كلما ازداد الإنسان غباوة اعتقد أنه أفضل من غيره.".

د. عبدالخالق حسين
6/5/2006

يتبع

مقالات أخرى للكاتب:
http://www.sotaliraq.com/Dr-Abdulkhaliq-Hussein.html