إنما باسم الله هم يقتلون!

إن كنا بحاجة للدلالة على مدى خطورة ودموية الإرهاب باسم الدين، فأمامنا سلسلة "عروض" بن لادن والظواهري والزرقاوي، وقبلها قائمة إسلامية باستباحة دماء عدد كبير من المثقفين العرب ومعظمهم من المصريين.
لقد قلنا في مقالنا المعنون "التطرف الإسلامي والعدوان على الآخرين" في 16 نيسان المنصرم إن التطرف والعنف باسم الدين ليسا منحصرين في الدين الإسلامي وحده؛ ومع أن البوذية أقل الأديان ذكرا للعنف، فقد وجدت في التسعينات الماضية منظمة بوذية إرهابية في اليابان استخدمت الغاز في مترو طوكيو، مبررة ذلك باسم مكافحة الخروج على البوذية والعودة للبوذية " الأصلية." كما أن العديد من حاخامات إسرائيل مجدوا اغتيال رابين وبرروه توراتيا. أما بعض القسس اللوثرين والبروتستانتيين المتطرفين في أمريكا، فقد أنشئوا ميليشيات صغيرة تهاجم المراكز الطبية التي تمارس الإجهاض، ومنهم من هاجموا نوادي خاصة بالمثليين جنسيا؛ وهؤلاء المتطرفون يدينون المسيحيين اللبراليين كما يهاجمون المسيحيين المحافظين باعتبار أن أولئك انتهازيون وهؤلاء جبناء! وحركات السيخ تطورت في التسعينيات لترفع شعارات دينية مع شعار الانفصال، فمارست سلسلة عمليات دموية ضد الهندوس والدولة الهندية.
في كل هذه الحالات وغيرها كانت تبريرات العنف الأعمى دينية وباسم إعلاء كلمة الله وتنقية الدين من المرض والانحراف.
أجل، ثمة أشكال أخرى من الإرهاب هي سياسية، وقد تمارسها جماعات يفترض أن تكون علمانية، وهي عادة من اليسار المتطرف. هناك مثلا الألوية الحمراء الإيطالية وبادر ماينهوف الألمانية والحرس الأحمر الياباني، ومنظمة أبو نضال الفلسطينية والمليشيات الماوية المسلحة في كولومبيا وبيرو والبنغال وغيرها. ومن قبل، هناك الفوضويون المتطرفون الروس في القرن التاسع عشر. الفارق هنا مع الإرهاب الديني هو أن أهداف تلك الجماعات والمليشيات والتنظيمات كانت محدودة وسياسية بحتة، والضحايا "منتقون"، ممن يمثلون السلطة السياسية. أما الإرهاب الديني، فإنه يستخدم الدين ليمارس باسم الله إرهابا أعمى؛ وحتى منظمة التحرير الارلندية ما كانت عملياتها الإرهابية لتطال المئات من المدنيين الأبرياء لولا امتزاج البعد الديني عندهم بالدافع السياسي، ولكن تلك المنظمة لم تمارس إرهابها على نطاق دولي وفي كل مكان وضد كل الشعوب كما تفعل القاعدة اليوم.
في مقالنا مار الذكر أشرنا لكتاب إنجليزي Juergensmeyer Mark ظهر عام 2000، وهو يبحث أشكال الإرهاب الديني ويحللها. وعنوان الكتاب نفسه "باسم الله يقتلون" وبحد ذاته يدل على المضمون [انظر مقالنا المذكور.] وقد قابل المؤلف عددا من الإرهابيين المعتقلين وغير المعتقلين ومن أديان مختلفة، ومنهم محمود أبو حليمة، وهو أحد أعوان عمر عبد الرحمن والمشارك مع رمزي يوسف في تفجير مبنى مركز التجارة الدولي عام 1993. وقد وجد المؤلف عند الجميع ما هو مشترك، وهو دعوتهم لدين غير الدين الرسمي، باعتبار الدين السائد منحرفا، وتبرير العنف باسم الدين، ومهاجمة العلمانية والمؤسسات الدستورية، وكراهية الآخر كراهية عمياء لا مساومة فيها. وقال أبو حليمة للمؤلف: "أمريكا بلا دين ولا أخلاق لانها علمانية."
منذ 2000، تضاءل خطر الإرهاب الديني غير الإسلامي بالمقارنة مع اتساع رقعة الإرهاب الإسلامي، وانتقال عملياته من بلد لآخر متجاوزا الحدود، وممارسته لعنف دموي أعمى يذهب المدنيون وبالآلاف ضحايا لها. إن هذا الخطر كان قد برز منذ الثمانينات، وازداد خطورة ودموية في التسعينيات، وكانت الذروة في 11 سبتمبر وما تلاها ولحد يومنا.
إذا كان الإرهاب الإسلامي ينطق باسم الدين الذي يريده دعاته وممارسوه، فإنه ذو أهداف سياسية ولكنها تخضع للهدف الديني النهائي، وهو إقامة دولة الإسلام الكبرى في العالم، أي العمل لانتزاع السلطة لنشر عقيدتهم الدينية العمياء بالقوة والإكراه، وهذا سواء كان الإرهاب سنيا أو شيعيا كمثل جيش المهدي التابع لنظام ولاية الفقيه. وفي العراق اليوم يلتقي الإرهابان رغم الخصومات العقائدية العميقة، وهما يلتقيان معا بالإرهاب السياسي الصدامي لأن للجميع هدفا سياسيا آنيا مشتركا وهو عرقلة تقدم العراق ونشر الفوضى الدموية ومحاولة تأجيج الحرب الطائفية، ومشاغلة القوات الأمريكية. وكما قلنا سابقا، فهذا اللقاء مرتبط بالحلف الإيراني مع القاعدة ومع القوى الصدامية المسنودة سوريا وبأموال عربية.
إن امتزاج البعد الديني بالبعد السياسي ظاهرة تميز الإرهاب الإسلامي بوجه خاص، وعندما تستولي أحزاب إسلامية على السلطة فإنها تمارس إرهاب الدولة باسم حكم الشريعة وتحارب الأديان الأخرى، كما في دارفور، وكما تمارس أيضا الجماعات والمليشيات الدينية من سنية وشيعية في العراق ضد المسيحيين والمندائيين، وكما يفعل التكفيريون المهووسون ضد أبناء الشيعة، ثم عمليات التهجير المتبادلة للعائلات. نرى هنا أن الإرهاب الديني يتحول إلى إرهاب طائفي في نفس الوقت ـ ديني ضد المسيحيين والصابئة المندائيين وغيرهم، وطائفي ضد أبناء الشيعة. إن إرهاب الدولة الإسلامية يختلف عن إرهاب الأنظمة الاستبدادية الأخرى [غير الدينية]، حيث قد يكون الإرهاب للتطهير العرقي ولتثبيت السلطة ولإلحاق شعوب أخرى. ومن الأمثلة ما كان عليه الوضع في البوسنة وكوسوفو زمن ميلوسوفيتج، وكما كان نظام صدام، الذي مارس أيضا إرهابا طائفيا، وكما كان يفعل الخمير الحمر لإبادة الخصوم، وستالين، وماو في فترة الثورة الثقافية، وكما كان يفعل الطاغية بينوشه في شيلي وحكام سلفادور وغيرهم.
إن الأنظمة الإسلامية تمارس إرهاب الدولة وتجعله نهجا رسميا كما مارس الطالبان واليوم في السودان وإيران.
إن من الظواهر الخطيرة جدا ما يتمتع به الإرهاب الإسلامي وجماعاته وشبكاته ودعايته من تعاطف شعبي في الشارعين العربي والمسلم، بل وكذلك بين قطاعات واسعة من المثقفين العرب أنفسهم. وقد أحسن الدكتور مأمون فندي في مقالته ليوم الأول من الشهر الحالي [ في الشرق الأوسط ]، حين أشار لشدة الإقبال الشعبي على مشاهدة أشرطة الزرقاوي وبن لادن والظواهري. إنه يكتب:
" ليس لدي شك ولو للحظة واحدة في أننا اليوم مجتمعات باتت تتعامل مع الإرهاب كأمر واقع، لا يحركنا موت عشرين أو ثلاثين بعربة مفخفخة في العراق، لا يحركنا مقتل سائحين في دهب وشرم الشيخ، ولا يحركنا اغتيال عرس في الأردن، أو تفجير في الرياض. نحن قوم فقدنا الإحساس بقيمة الإنسان، لدينا رغبة جامحة في رؤية الدماء وهي تسيل، لا نستطيع قتل الأعداء لنرى دماءهم، لذلك بدأنا في قتل أنفسنا. نحن حضارة تدخل تاريخ الانتحار من أكبر بواباته؛ فإن كان هذا وضعنا، فلمن الأشرطة اليوم؟! تخطينا مرحلة الانتحاري الفرد، ذلك الشاب الذي يعبّأ بالكراهية لنفسه ولغيره، ويحزم نفسه بالحزام الناسف ليفجر نفسه في حافلة؛ صفقنا لهذا عندما فجر هؤلاء أنفسهم في إسرائيل واليوم يفجرون أنفسهم فينا..." أجل غالبية المسلمين، كما يقول، إن لم تؤيد الإرهاب صراحة فلديها "حالة من الاشتباك العاطفي معه."
إن ما يجب قوله أيضا وبكل صراحة هو استغلال آيات الجهاد الكثيرة في القرآن لتبرير القتل العبثي وسفك الدماء، واعتبار الجهاد "دفاعا عن الدين والنفس والكرامة"، كما قال أبو حليمة في السجن للكاتب البريطاني؛ وأيضا اعتبار كل من الفقه السني والفقه الشيعي لغير المسلمين "كفارا كتابيين" لتمييزهم عن بقية الكفار، أي أهل ذمة، ومواطنين من الدرجة الأخيرة. وهذا ما ينفذ منه المتطرفون وأدعياء الدين لاستباحة غير المسلم ونهبه وتهجيره وفرض تغيير الدين عليه. هذا ما يجري اليوم تجاه المسيحيين والمندائيين في العراق، [انظر مقال للدكتور رياض عبد عن الموضوع قبل أيام في إيلاف ومواقع أخرى]، وكما يمارس تجاه الأقباط المصريين، وحيث اختطاف البنات المسيحيات أيضا واغتصابهن وفرض الإسلام عليهن. أما في دارفو فالاغتصاب يومي وعلى نطاق واسع برعاية وتشجيع وتمويل النظام الإسلامي في السودان، الذي لا يجد من أية دولة عربية أخرى مجرد نقد واضح لممارساته في دارفور. ولكن لم الإدانة ما دامت دولة بحجم الصين متضامنة مع السودان، كتضامنها الانتهازي هي وروسيا مع القنبلة الإيرانية!!
إن الإرهاب الإسلامي، كما كتب العديدون منا مرارا وتكرارا، هو وليد الإسلام السياسي بفرعيه، ويخطئ الذين يظنون أن أي حلف سياسي مع الإسلاميين سيخدم هدفا ديمقراطيا، لأن الإسلام السياسي عدو لدود للعلمانية وللمؤسسات الدستورية ومتشبث بفرض أحكام الشريعة على الجميع، وهو يعمل على مراحل وبذكاء ودهاء، كما حال حماس أيضا.

عزيز الحاج
3 مايو ـ أيار ـ 2006