مشاهد فيلية ـ ما سبق الانفال ـ بغداد 1971 [ الجزء الاول ]

رب الاسرة أخذ من مكان عمله مخفوراً الى مركز الشرطة ، لا لشئ سوى بسبب مظهره ولباسه ، ثم لهجته التي تثبت انه كوردياً؟؟!!.

في تلك الايام لم تكن بعد بحاجة لتحمل وثائقك الثبوتية، لذا طلب منه ان يذهب الى البيت بصحبة شرطي لاحضارها، مع كامل عائلته؟!
استغرب الاجراء وحاول أن يستفهم من مأمور الشرطة بما هي حاجتهم لاصطحاب عائلته ، اذا كان هو سيذهب لجلب اوراقه!!!
لكن تهديد مأمور المركز بسوقه* جعله يتراجع عن أصراره، فاسلم أمره الى الله،
رغم ان وقع ذلك كان شديداً عليه وهو رب أسرة بينهم فتيات شابات، ومسألة دخولهم الى مراكز الشرطة، مسألة معيبة، فاستكبر الامر، وكان يبتهل من أعماقه متمنياً أن بناته لم يعدن بعد من المدرسة.

ولكن للاسف وجد ابنته الوسطى تفتح لهم باب البيت، وقد ارعبها المنظر ، فلم تعرف لماذا جاء الشرطي بوالدها مكبلاً وهو المعروف بنزاهته وخلقه ولكونه شخصية معروفة محترمة ومحبوبة في الحي. حاول أن يبتسم ويسهل عليها الامر وهو يراها قد اصيبت بالشحوب، لكنه لم يستطع أن ينقذ الموقف وبقيت ترتجف حتى احتضنتها أمها.

اغلقوا الباب خلفهم، مع توصية للجيران بان يبلغ الابناء ممن لم يكن متواجداً في البيت وقتها، بوجهتهم وانهم عائدون.

وصلوا المخفر فوجدوا اعداد كبيرة من العوائل العراقية قد سبقتهم ، وكان معظمهم من الكورد الفيلية وعوائل بعض منتسبي السفارة الايرانية ومنهم عائلة مدير المدرسة الايرانية.

لم تكن هناك اي مؤشرات سبقت ذلك اليوم يستدل منها على وجود علاقة غير طبيعية مع الجارة ايران او اي شئ ينبأ عن قطع العلاقات الدبلوماسية معها.

دخلت أحدى بنات مدير المدرسة الايرانية في مشادة كلامية مع العاملين في المركز لتذكرهم أنه حتى في حال قطع العلاقة بين العراق وايران سيكونون هم اخر من يغادر ، لانهم يعتبرون جزء من طاقم السفارة.

بعد ان هدأت المشادة استفسروا منها هل هم فعلا ايرانيون فاجابوهم لا انهم اباً عن جد ولدوا وسكنوا بغداد؟!

ارعبهم الاسلوب الفج والالفاض البذيئة التي أستخدمها بعض الموجودين، ولم يتبينوا أن كانوا هم من الشرطة او اعضاء المنظمة الحزبية او من رجالات الامن.

كان هناك طفلا رضيعاً يبكي طوال الوقت، ويبدوا انه كان جائعاً، وكانت والدته تخجل من ارضاعه امام الاخرين، حتى اقنعها البعض ان تجلس ووجها الى الحائط، وتحاول ان ترضع وليدها، ولكن رغم كل ذلك بقى الطفل يبكي؟! فكان يضفي بصراخه لمسات تراجيدية اخرى على الاجواء.

مرت الدقائق كساعات، كان الاب قلقاً، كأنه يخشى المجهول؟ دس ببعض النقود في يد الشرطة، لحظتها تذكرت عبارة "شرطي ابو واشر" **، علهم يسرعون بالقاء النظرة على اوراقه حتى يعود وعائلته للبيت.

لا يعلمون كم من الوقت استغرق وجودهم في مخفر الشرطة ، لكنهم حسبوه دهراً، وبعدها سمح لهم بالمغادرة ، اطلقوا سيقانهم للريح ، كأن ثمة شخص يطاردهم حتى وصولوا الى بيتهم مطمئنين، كأنهم مروا بيوم الحشر.

في ذلك اليوم والايام التالية لم تكن الاخبارسارة، ابلغ كثير من الجيران والاقارب بالتهيئة للرحيل عن الوطن، بتهمة التبعية، والاخر لانه احتفظ بجنسية ايرانية لدى تأسيس دولة العراق تجنباً من ارسال أبناءه للجيش، ثم تقدم معظمهم ومنذ عقود بطلبات للحصول على الجنسية العراقية، ولكن طلباتهم لم تبث بها بعد؟! الا في الاشهر الاخيرة وظهرت انها كانت مصيدة للتأكد من أعداد هذه العوائل التي كانت من الصعب حصرها. لم تكن لتستطيع ان تفرقهم عن الاخرين لانهم كانوا ابناء هذا الوطن وذهبوا ضحايا لمصالح قوى كبرى.

ولكن اغرب حالة كانت حالة ابنة عمهم ، التي كانت قد تزوجت من قريب لهم كان قد غادر العراق وهو طفل، بعد وفاة والده وزواج امه من كوردي من أهالي كرمنشاه. عند وجوده في ايران كانوا قد اصدروا له جنسية ايرانية لحاجته لها لدخول المدرسة. ولكن عند عودته حاول ان يسترجع جنسيته العراقية فلم يفلح وذلك لضياع سجل والده، عند نقله من محافظة الكوت لبغداد؟! فطلب منه ان يقدم طلباً بالتجنس ، افضل من انتظار المعجزة ، لان من قام بعملية النقل قد توفي؟!
المعظلة الاخرى، طلب من زوجته أن تتخلى عن جنسيتها العراقية لانها تتبع زوجها. ثم يتقدموا معاً بطلب تجنس للحصول على الجنسية العراقية؟!! كانت كل تلك الاجراءات قد تمت قبل ثورة تموز 1958ثم توقفت كل تلك السنين!! دون معرفة السبب. لذا شملهم التهجير.
كان وقع ذلك شديداً عليهم ،وخاصة وتعلقهم الشديد بالاطفال ، فكان يوم وداعهم أشبه بمأتم. ثم بدأ الكثير من الاقارب والجيران ، يبيعون كل ما يملكون حتى أدوات واواني الطبخ وبأسعار بخسة جداً.
وتهافت البعض للشراء، بينما امتنع البعض الاخر، لانه ما كان يقبل لنفسه أن يستغل ظرف غيره؟

ذهبت ابنتهم مع بنات جارهم لمدارسهن لتساعدهن في استخراح وثائق بمراحلهن الدراسية، واستغربت كيف كانت أحد المعلمات تسأل أن كانت لديهم سجاد، لانها بودها شراءه؟!

تصرف ابن عم لهم وكان رب عائلة كبيرة بطريقة، اعتبروه في حينه تصرفاً أخرقاً، اذ تقدم بطلب التنازل عن جنسيته العراقية والسفر الى ايران، وقال لهم "الان تلوموني ، ولكن غداً عندما يأتي دوركم ستعرفون حكمة تصرفي؟!! وعندها سأكون في استقبالكم".

شملت عمليات التسفير الكثير من الكورد الفيلية، وخاصة تلك العوائل التي كانت قد تقدمت للحصول على تجنس منذ عقود ولم تفلح في ذلك كما اسلفنا، وأخرى كانت قد تقدم بعض ابناءهم للحصول على شهادات الجنسية العراقية ولم تمنح لهم؟!

لم ينتبه لتلك الخطوة والاسباب من وراءها سوى الزعيم الخالد البرزاني، حيث عرف انها جاءت لضرب عمق الكورد في مناطق وسط وجنوب العراق والمتمثل بالكورد الفيلية. فوجدتهم السلطة الحلقة الأضعف لتبدأ به خطتها المرحلية المدروسة في تصفية الكورد، وانهاء تواجدهم. وخاصة في بغداد حيث كان للكورد الفيلية دور بارز في اقتصاد السوق. وخاصة لدورهم الكبير في الدعم المالي واللوجستي لحركة التحررية الكوردية. وتأكدت للسلطة مدى تمسكهم بقوميتهم وهويتهم الكوردية، وهي لم تكن قد نست بعد دورهم في تصدي لانقلابهم المشؤوم الذي حدث في شباط 1963 .

كانت تلك التسفيرات بداية الحلقة للوصول الى عمليات الانفال التي حدثت وبشكله الواضح في نهاية الثمانينات. وقد عمدت السلطة البعثية الى تلك الممارسة البشعة، في وقت كانت فيها تدعي، انها سائرة الى تطبيق بيان 11 آذار لحل القضية القومية الكوردية؟؟؟!!!

د. منيرة أميد
8 نيسان (ابريل) 2006

* كان الناس تُرسل الى دائرة التسفيرات، ثم تُرحل الى ايران، فكان تطلق على العملية تلك بال " سَوٌْقْ ".
** عبارة كانت يستخدمها العراقيون للدلالة على ان الشرطة تأخذ رشوة، فرحم الله شرطي ذلك الزمان (ابو أسماعيل)، الذي كان يكتفي بطلب دراهم معدودة ليحل لك اكبر عقدة (مثلاً أن ترى قريباً لك في المخفر). وفي أيامنا هذه أصبح المرتشون من كل المستويات، وبعضهم لا يتحدث سوى بلغة الاوراق والدفاتر، ويمكنه ان يطلق لك سراح قاتل ماجور أو ارهابي ببضع منها؟!.

الورقة عملة نقدية أمريكية خضراء قيمتها 100 دولار.
الدفتر هي مجموعة من الاوراق اعلاه بما قيمته 10 آلاف دولار

المصدر: صوت العراق، 2/5/2006