الدجيل .. وحلبجة.!

كل من تابع محاكمة مجرمي مجزرة الدجيل ، يرى أن تلك الرؤوس المجرمة التي نفذت المجزرة ، وهي تدلي بافاداتها في قفص الاتهام بوقاحة المجرم المحترف ، هي ليست ذات الوجوه المرعوبة عند إلقاء القبض عليها ، واعترافها بجرائم يندى لها جبين وحوش الغاب ، وليس الإنسانية ، وحتى مياه دجلة والفرات غير قادرة على إزالة آثار تلك الجرائم . جرائم كثيرة بحق الشعب العراقي ، اعترفوا بها لحظة إلقاء القبض عليهم وقبل أن يباشر المحققون العراقيون ، التحقيق معهم بشكل رسمي ، وربما اعترافاتهم ، التي تضمنتها ملفاتهم المحفوظة لدى المحققين الأمريكان ، لم تترك شاردة أو واردة عن جرائمهم وأفعالهم إلا واعترفوا بها ، وبرزان قد نوه أمام المحكمة ببعض منها ، فكيف بكبيرهم الذي خطط لكل ما اقترفت أياديهم من جرائم .

وفر الوضع الأمريكي الجديد لهؤلاء المجرمين في معتقلهم كل وسائل الراحة ، ( كما كانوا يفعلونه بالضبط مع المعتقلين والمتهمين العراقيين ) من مأكل ' مسلفن ' عن طريق متعهدين أمريكان ، وملبس وفق أحدث مواصفات المودة العربية ، كما توفرت لهم قراءة الصحف ومشاهدة التلفزيون ، والإتصال بعوائلهم وبالمحيط الخارجي عن طريق منظمات حقوق الإنسان المجهولة وغير المعروفة أيام حكمهم ، والتلفونات ' الموبايلات ' المهربة ، كما تعددت لهم مقابلات وزيارات المحامين ، عراقيين وعرب وأجانب ، رجالا ونساء ، وعندما عرضت عليهم إفاداتهم وإعترافاتهم المدونة ، والموثقة من محققين قضاة وبحضور محامين عنهم ، أنكروها جملة وتفصيلا ، وحتى تواقيعهم ما عادت هي تواقيعهم ، وأظهروا براءتهم من كل ما أسند لهم واليهم من مستندات تفيد حصول قتل للمتهمين تحت التعذيب ، أو حتى عدم وقوع إعدام لآخرين بالخطأ العمد ، نتيجة إستبدال الضحايا بآخرين لقاء ثمن بالطبع ، براءتهم أثبتوها كبراءة أخوة يوسف من دم أخيهم . من يدري فربما سيطالب هؤلاء القتلة ، ومحاموهم من أبطال فضائح النفط مقابل الغذاء ، بتعويض من ضحاياهم 148 ، عما أصابهم من ضرر نتيجة!
اعتقالهم بدعاوى كيدية ، ولم تثبت الوقائع والأدلة المقدمة حصول وقوعها .!!

المفارقة في هذه المحاكمة ، أن المتهمين من ' أبطال ' النظام يطالبون بوقت كاف في مناقشة الشهود والرد على هيئة المحكمة ، على الرغم من أنهم حولوا ساحة المحكمة إلى مهرجان لخطابتهم السياسية ، وعرضا لأفعالهم المخزية ، وما كانوا يمارسونه بحق العراقيين طيلة أكثر من 35 سنة ، وكأن الشعب العراقي غير معني بجرائمهم أو لم يكن هو الضحية ، وما ارتكبوه من جرائم بحق أبنائه وبناته ، معارضين كانوا أم من أنصارهم ، كأنه حلم أو من نسج الخيال . فطيلة الفترة التي مثل بها أمام المحكمة ، بعض أقطاب الحكم ، في مجزرة الدجيل ، وعلى كثرة أوراق الدعوى وتشعبها ، وكثرة أقوال الشهود وإفادات المتهمين ، لم يظهر أي دليل على تمتع الضحايا ، المسفوك دمهم ، في قضية الدجيل ، أو في أي قضية أخرى ، بأي حق من الحقوق التي ضمنتها حتى القوانين البعثية للمتهم ، كما لم يدل أي دليل على وجود محكمة حقيقية حوكم أمامها المتهمون الضحايا ، ناهيك عن وجود أثر أو توفر أجواء سليمة للمحاكمة ، أما وجود محام أو شهود للدفاع ، فهذا ترف ومضيعة للوقت ، ف ' محكمة الثورة ' التي قادها عواد البندر ، تتماشى مع سرعة العصر ، فخلال أسبوعين ، يقال ، والعهدة على قول الحاكم ، عواد البندر نفسه ، وقف 148 متهما من دون قفص اتهام ، أمام حاكم لا ضمير ولا وقت له ، حتى ليتأكد من عددهم ، أو من أسمائهم ، فكيف عن الاستماع لإفاداتهم ، وأصدر الحكم الذي أزهق أرواح كل من حوت اسمه أوراق الدعوى بمن فيهم الأطفال . رغم كل الحرية التي منحت لهؤلاء القتله في الدفاع عن المجزرة ، نراهم يجأرون بالشكوى لعدم إتاحة الوقت لهم بالدفاع عن أنفسهم ، وما نخشاه هو أن يطالب هؤلاء القتلة بتعويض عما أصابهم من ضرر ، وما تسبب به الشهداء الضحايا لهم من تشويه سمعة ، فلا زال هناك من يعتقد بان سمعة الأنظمة الفاشية وشخوصها ، أزكى من سمعة الألماس ـ البرلنت ، لما يتمتع به من صفات ومزايا نادرة بين المعادن ، وفي هذه الحال سنطالب نحن بإعادة محاكمة الشهداء الضحايا ، فالحقائق تتغير وفق الظروف ، ووفق ما يتمتع به هؤلاء الحكام الأجلاف ، والمدافعون عنهم من المحامين ، من صلف وصفاقة وضمائر ميتة ..!

إذا كانت جريمة الدجيل رغم محدودية ضحاياها ، مدانة من كل القوى الوطنية العراقية ، وحركات التحرر الوطني العربية والعالمية ، فكيف بجريمة العصر التي ارتكبها نظام البعث الفاشي في حلبجة الكوردستانية في السادس عشر من شهر آذار من العام 1988؟ هذه الجريمة التي شكلت ، ولا زالت تشكل ، إدانة صارخة لنظام حكم لا يفهم غير القوة في إدارة الصراع ، ليس مع الجيران والقوى الخارجية ، وإنما حتى مع من يختلف معهم من مكونات قوى الشعب والوطن العراقي ، فالجريمة عبرت عن حقد قومي لا حدود له ، ووحشية نظام استخدم أساليب قذرة في محاولة يائسة للقضاء على شعب يطالب بحقه بالعيش كباقي شعوب الأرض ، كما دللت ، هذه الجريمة ، بشكل واضح عن هزيمة أخلاقية للنظم القومية ، قبل أن تضع الحجر الأساس لهزيمة حزب البعث السياسية . مأزق الحرب مع إيران الذي أوشك أن يطبق على نظام الحكم الفاشي ، جعل صدام في موقف لن يتردد فيه عن اختيار أقذر الأسلحة وأشدها فتكا باستخدامها ضد الثورة الكوردية ، حيث أقدم على استخدام كل ماعنده من قدرات عسكرية قادرة على حمل الموت الجماعي للثوار ، واستخدام مختلف الأسلحة الكيمياوية بما فيها غاز الخردل ، وقنابل النابالم الحارقة ليزرع الموت في مدينة حلبجة وما جاورها ، ففي لحظات أنزرع الموت الأصفر في كل أرجاء المدينة بأمر من صدام ومشاركة من أركان نظامه ، كان نتيجته 4500 شهيد ، بين طفل وشيخ وامرأة ، إضافة لما خلفته هذه الجريمة من آلاف المرضى والمعوقين نتيجة استنشاقهم للغازات السامة جراء هذا الهجوم البربري ، إن هذه الجريمة المروعة ، لم تكن شبيها لها سوى القنابل الذرية التي استخدمتها القوات الأمريكية على مدينتي ناكزاكي وهورشيما ، لفرض الإستسلام على اليابان ، فإذا كانت أمريكا مدانة باستخدامها هذه الأسلحة ضد الشعب الياباني لاجبار حكومته على الاستسلام ، فصدام ونظامه قد استخدم أسلحته ضد الشعب الكوردي ليعلن إفلاس البعث ـ القومي سياسيا وأخلاقيا ، وليفسح في المجال أمام الشعب الكوردي لأن يؤسس دولته وفق منظوره القومي ..

جريمة استخدام الأسلحة الكيماوية للقتل الجماعي ، ليست مسؤولية النظام المقبور لوحده ، وإنما تتحملها معه ، كل الدول التي حرضت وساعدت ودعمت صدام ونظامه في حربه ضد إيران ، وجهزته وأمدته بهذه الأسلحة ، وهذه الدول مطالبة بتحمل مسؤوليتها في تنظيف ليس منطقة كوردستان من آثار هذه الأسلحة ، وإنما تنظيف كل المناطق العراقية التي دارت فيها المعارك ، سواء مع إيران أم الكويت ، فالجريمة تتقاسمها كل الدول ذات العلاقة في بناء وإنشاء وتجهيز هذه المواد ، كما أن أمريكا هي الجاني الأكبر ، التي ساهمت ، ولا زالت تساهم وتساعد في تردي الوضع العراقي ودماره ، فستقف في النهاية إلى جانب صدام وأقطاب نظامه إن تمت محاكمته وفق ما هو الحال في محاكمة الدجيل ، فليس هناك من أدلة مادية تدلل أن صدام اشترك فعلا في إلقاء الغازات القاتلة على حلبجة وبشكل مباشر ،وسينكر كل الأدلة المقدمة ، كما هو الحال عليه في الدجيل ..!

هادي فريد التكريتي
16 آذار 2006