ظاهرة مقتدى الصدر مرة أخرى

لا شك أن سلوك مقتدى الصدر وبروزه على السطح بهذه السرعة بعد تحرير العراق هو ظاهرة تستحق الدراسة من قبل الباحثين في العلوم الاجتماعية، وقد كتبت عنها أكثر من مرة قبل عام. وأرى من المفيد العودة لها لأهميتها ولكونها واحدة من أمراض وافرازات وتركة النظام السابق. إذ لم يسمع أحد خارج مدينة النجف الأشرف بمقتدى الصدر قبل سقوط نظام البعث الفاشي على يد القوات الأمريكية. فالرجل كان مغموراً قبل تحرير العراق، ولا غرابة في ذلك فهو مازال شاباُ لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من العمر، وقد انتقم النظام الفاشي من أسرته شر انتقام وفرض عليه الصمت والطاعة وإلا فمصيره الإعدام. ولكن بعد يوم واحد فقط من تحرير العراق، أي يوم 10 نيسان/أبريل 2003 تحديداً، برز اسم مقتدى الصدر وصار أشهر من نار على علم بسرعة الضوء، ليس على نطاق العراق فحسب، بل وعلى نطاق العالم. فما الذي عمله مقتدى ليستحق كل هذا الاهتمام وهذه الشهرة العالمية وليلعب هذا الدور التخريبي البارز في عراق ما بعد صدام؟
الإنسان السوي والعقلاني يتوقع من مقتدى أن يكون شاكراً لمن انتقم من قتلة والده وأخوته وأقربائه وحرر العراق وشعبه من أبشع نظام دموي عرفه التاريخ. ولكن بدلاً من ذلك، اتخذ السيد مقتدى موقفاً مخالفاً لكل التوقعات، إذ دشن دوره في العراق الجديد بقيام أتباعه بقتل الشهيد السيد عبدالمجيد الخوئي وإثنين من مرافقيه والتمثيل بجثثهم وسحلها بمنتهى الوحشية في صحن ضريح الإمام علي (ع) وحواليه، وإعلان المقاومة ضد القوات الأمريكية التي حررت العراق من قتلة والده والذي كاد أن يفرغ من شعبه. فهل هذا هو جزاء الإحسان؟

كما وأقام مقتدى بتنظيم مليشيات مسلحة معظم منتسبيها من فلول فدائيي صدام حسين الشيعة باسم "جيش المهدي" مستثمراً السمعة الجيدة لعائلته وتراثها النضالي وما دفعته من تضحيات خلال حكم البعث الفاشي. ولو تأملنا شخصية مقتدى وإمكانياته العلمية الدينية والثقافية والسياسية، لعرفنا أن الرجل وكما عرف عنه من خطاباته وسلوكه وتصريحاته، دون الحد الأدنى المطلوب من هذه الإمكانيات. إذَنْ فما الذي جعله هو وليس غيره من السياسيين العراقيين المعروفين بتاريخهم النضالي أن يحتل هذا الموقع البارز دون غيره؟ الجواب هو إيران وملياراتها من الدولارات النفطية وشبكة إعلامها واستخباراتها الأخطبوطية التي انتشرت في العراق بعد سقوط الفاشية مباشرة وتعقيدات الوضع العراقي من مخلفات نظام البعث المقبور. فالمفروض أن تكون إيران وسوريا، كما مقتدى الصدر نفسه، من أكثر المستفيدين، بعد الشعب العراقي، من سقوط نظام صدام، ولكن عداء هاتين الدولتين، إيران وسوريا، لأمريكا، دفعهما لأخذ قرار استراتيجي قبل سقوط الفاشية بإفشال العملية السياسية في العراق ودمقرطته نكاية بأمريكا "الشيطان الأكبر" لكي لا تتجرأ ثانية وتعيد ذات التجربة معهما في المستقبل. وقد تبنت سوريا وإيران خطة استراتيجية مصيرية لتحقيق هذا الهدف على حساب الشعب العراقي ومحاربة أمريكا على الأراضي العراقية وبدماء الشعب العراقي بدلاً من أراضيهما ودماء أبنائهما ومهما كلفهما من أموال.

لا شك إن مقتدى كان أحد الأدوات المفيدة للمحور الإيراني ـ السوري، فوقع عليه الخيار ليقوم مع غيره في تنفيذ هذا المخطط الجهنمي. فمنذ سقوط النظام الفاشي ولحد الآن ومقتدى الصدر ومليشياته يعملون، أسوة بالإرهاب البعثي ـ السلفي، على عرقلة الاستقرار في العراق بحجة مقاومة "الاحتلال". وهذا العمل بطبيعة الحال يصب ليس في خدمة إيران وسوريا والتحالف البعثي-السلفي فحسب، بل ويخدم سياسة معظم دول المنطقة. لأن جميع هذه الدول تفضل عراقاً مدمراً وضعيفاً بقيادة صدام حسين أو أي دكتاتور أخر، على العراق الديمقراطي الجديد. فالعراق الديمقراطي المستقر سياسياً والمزدهر اقتصادياً سيثير شهية شعوب المنطقة ويدفعها للنضال من أجل الديمقراطية إقتداءً بالعراق. لذلك تعمل جميع دول المنطقة والقوى المعادية لأمريكا في العالم على إفشال التجربة الديمقراطية في العراق نكاية بأمريكا.

وللسبب أعلاه، نرى حكومات المنطقة يعيرون مقتدى الصدر أهمية بالغة رغم خوائه الفكري، فيوجهون له الدعوات الرسمية ويقوم هو بسفرات مكوكية ويستقبل من قبل رؤساء وملوك دول الجوار كرجل دولة أو رئيس حكومة، وهو بدوره يهدد بشن حرب على أمريكا فيما لو قامت الأخيرة بالتعرض إلى أية دولة من هذه الدول، وأنه مستعد للتضحية بنفسه في سبيل ذلك إلى آخر قطرة من دمه!!

والمعروف أن التحالف البعثي ـ الأصولي المتطرف، يعمل على إشعال حرب طائفية في العراق لا تبقي ولا تذر. فبذل الإرهابيون كل ما في وسعهم من قتل وإثارة صراعات وفتن طائفية ولكن دون جدوى، إلى أن لجأوا إلى ارتكاب أبشع جريمة لم تخطر على بال أحد، ففجروا ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري (ع) في سامراء لدفع الشيعة إلى عمل مماثل ضد السنة في جميع أنحاء العراق. ولكن الغريب هو ازدواجية موقف مقتدى الصدر في هذا الغليان. فمن جهة قامت مليشياته "جيش المهدي" بالاعتداء العشوائي على مساجد السنة، ومن جهة أخرى أظهر مقتدى نفسه كحمامة سلام فقام بلقاءات مع ما يسمى ب(هيئة العلماء المسلمين) المعروفين بمواقفهم المتشددة ضد العراق الجديد بحجة أنه يعمل على تهدئة الوضع. وفي نفس الوقت تقوم جماعة مقتدى بمظاهرات تردد الشعارات الإيرانية (كلا كلا لأمريكا.. كلا كلا لإسرائيل) وإقحام اسم إسرائيل بمناسبة ودونها في هذه العملية بغية المزايدة، تماماًَ على الطريقة الصدامية والإيرانية، ومحاولة إلقاء اللوم على القوات الأمريكية في تفجير سامراء وما يجري من صراعات طائفية وكأن أمريكا هي التي أوجدت السنة والشيعة في العراق، علماً بأن هذه المذاهب والصراعات الدموية بينها ظهرت قبل اكتشاف أمريكا بألف عام. والكل يعرف ماذا سيحصل في العراق فيما لو رحلت القوات الأجنبية من العراق.

أما رد فعل مقتدى الصدر على ما قام به الإرهابيون يوم 12 آذار الجاري بتفجيرات مرعبة في مدينة الثورة (الصدر) التي معظم سكانها من الشيعة، وراح ضحيتها أكثر من ستين شهيداً وأكثر من مائة جريح، فقد عقد مؤتمراً صحفياً بهذه المناسبة المأساوية ونشر بعضاً من تصريحاته على موقع بي بي سي العربية بعنوان: (الصدر يدعو انصاره لعدم الرد على التفجيرات) جاء فيه : (نقلت وكالة رويترز عن الصدر خلال مؤتمر صحفي عقده في مدينة النجف انه لم يأمر ميليشيا جيش المهدي بضرب مقاتلي القاعدة ردا على تفجيرات الاحد (12/3/2006) في حي الصدر الشيعي ببغداد. وقال الصدر انه كان بوسعه ان يأمر جيش المهدي باقتلاع "الارهابيين والأصوليين" لأن هذا كان سيدفع بالبلاد الى حرب أهلية والعراقيون لا يريدون ذلك. وطلب من القادة السنة ادانة الهجوم. وفي الوقت ذاته قال مراسل بي بي سي في بغداد انه ينظر الى هجمات الاحد على انها لم تكن موجهة ضد الشيعة فقط بل انها تعد تحديا مباشرا لجيش المهدي الذي يتزعمه الصدر، والذي كان يلعب بالفعل دورا امنيا بالتعاون مع الشرطة العراقية. (bbcarabic.com ، 13/3/2006).

لقد تقصدنا في نقل الفقرة كاملة لأن هناك من يتهمنا بالانتقائية وحذف ما لم يتناسب مع ما نرمي إليه!! وأقول لهؤلاء، أن الغرض من اقتباس نص من مصدر ما ( التنصيص quotation) ليس المطلوب من الكاتب أو الباحث نقل المقال بالكامل أو الفقرة كلها، بل اجتزاء ما يتطلبه البحث وإلا صارت العملية نقل معظم المقال المقتبس منه، وهذا غير صحيح، إذ خير الكلام ما قل ودل. المهم أن يكون النص المقتبس صحيح وغير مشوه. على أي حال، هنا نقلت الفقرة بكاملها، لأني أريد توضيح مسألة مهمة وهي إظهار مقتدى على حقيقته. فكما قال (مراسل بي بي سي في بغداد انه ينظر الى هجمات الاحد على انها لم تكن موجهة ضد الشيعة فقط بل انها تعد تحديا مباشرا لجيش المهدي الذي يتزعمه الصدر.) ولكن الصدر وجيشه "المقدام" الذين يبدون شجاعة خارقة على طلبة الجامعات والنساء السافرات والأقليات الدينية من المسيحيين والصابئة ويفجرون محلات بيع الخمور وصالونات الحلاقة والتجميل ويعاقبون الشباب الذين يرتدون الجينز بمنتهى القسوة في المناطق الشيعية التي ترزح تحت سيطرتهم وإرهابهم، فجأة تحولوا إلى الحمل الوديع إزاء الإرهاب البعثي-السلفي الذي قتل العشرات في مدينة الثورة. والعذر هنا أنه "لا يريد أن يدفع بالبلاد الى حرب أهلية والعراقيون لا يريدون ذلك.". قول جميل ولكن الواقع لا يؤيد ذلك. فمن الذي هجم على مساجد أهل السنة بعد تفجير المزار الشيعي في سامراء؟ أليس معظمهم من فرسان "جيش المهدي" من ذوي البدلات السوداء، ذات البدلات التي كان يرتديها فدائيو صدام وفاشيو موسوليني؟ وإذا كان بوسعه أن يأمر جيش المهدي باقتلاع "الارهابيين والأصوليين" فلماذا لم يفعل ويخلص الشعب من محنته؟ وإذا كان صادقاً فيما قال، ألا يعنى هذا أنه متواطئ مع الإرهاب والأصوليين؟ أو أنه غير قادر على اقتلاع "الارهابيين والأصوليين" وفي هذه الحالة فهو يكذب وأن كل ما قاله مجرد نفح وادعاءات فارغة ليس غير.

ملاحظة أخرى جديرة بالذكر حول سلوك السيد مقتدى، وهي، بعد كل تفجير يحصل في العراق يسارع هو وأعوانه بترديد ما يقوله المسؤولون الإيرانيون وغيرهم من أعداء العراق بإلقاء اللوم ومسؤولية هذه التفجيرات على القوات الأمريكية والمطالبة برحيل هذه القوات. ولكن السؤال هو: هل بإمكان مقتدى وجيشه فرض الأمن ومنع هذه التفجيرات لو غادرت القوات الأمريكية، خاصة وكما أكد مراسل بي بي سي، أن تفجيرات مدينة الصدر الأخيرة كانت تعد تحدياً لجيش المهدي؟ فهل يفتينا سماحة السيد مقتدى لماذا لم تستطع ميليشياته منع تلك التفجيرات في مدينة الثورة (الصدر) وهي معقل جيشه العتيد ؟

الحقيقة هي، إن مقتدى الصدر وأتباعه وعدد غير قليل من العراقيين، يتصرفون إزاء أمريكا بعد أن حررتهم من النظام الجائر، كتصرف الأطفال المدللين إزاء أبيهم. فما أسهل من إلقاء اللوم على أمريكا والتحجج عليها في كل شيء. وهذا السلوك ناتج عن حرمان هؤلاء من الحرية. لقد منع النظام الفاشي العراقيين من ممارسة الحرية، بل ومنعهم حتى من التفكير والهمس فيما بينهم، وكان يحصي عليهم أنفاسهم، والموت لمن يتجرأ وينتقد أصغر موظف في الدولة، حتى صار العراقيون يعتقدون أن فعلاً للحيطان آذان. وانتقلت هذه العدوى حتى بين العراقيين في المهجر، فكان كل عراقي يتصور أي عراقي آخر يتجسس عليه. لذلك كانت العلاقة بين العراقيين متوترة ومشوبة بالريبة والشك والحذر. وقد نجح البعث في ذلك نجاحاً باهراً، وتسبب هذا في خلق عقد نفسية مزمنة عند العراقيين. ولما جاءتهم الحرية فجأة يوم 9/4/2003، وجد العراقيون أنفسهم فاقدين القدرة على ممارستها بالطريقة الصحيحة. فلم يعرف هؤلاء كيف يتصرفوا بهذه الحرية. فلجأوا إلى النهب والسلب والفرهود وتدمير ممتلكات الدولة والقتل والإثراء السريع عن طريق اختطاف الأبرياء وفرض المبالغ الباهظة على ذويهم.

كذلك تعني الحرية عندهم شتم أمريكا والحكومة ورئيسها والوزراء في العراق الجديد، كتعويض عما افتقدوه من شجاعة ورجولة التي سلبهما منهم صدام حسين خلال حكمه، فأخصاهم وأرغمهم بالهتاف له (بالروح بالدم نفديك يا صدام) و(صدام اسمك هز أمريكا) إلى آخره من الهتافات التي يندى لها الجبين وستبقى من علامات القهر والذل والاستلاب في تاريخ العراق تشهد على عهد البعث البائد البغيض، مرحلة (جمهورية الخوف والمقابر الجماعية). إذ ليس هناك أسهل من شتم أمريكا والحكومة في عراق ما بعد صدام للتنفيس عن المكبوتات والعقد النفسية، وهو أفضل علاج نفسي psychotherapy لهم. اشتموا أيها السادة ما شئتم ومن شئتم إذا كان في ذلك علاج لعقدكم التي سببها لكم النظام الفاشي البائد. أفرغوا ما في صدوركم من قيح، أخرجوا يومياً بمظاهرات صاخبة، واشتموا من تشاؤون!! ففي هذه التصرفات ستسترجعون رجولتكم التي سلبها منكم صدام حسين وحزبه المجرم.

أجل، يتهمني البعض بأني حاقد على حزب البعث وصدام حسين. لا يعلم هذا البعض أني أعتز وأتشرف بهذه "التهمة". ومن لا يعتز بكرهه لحزب فاشي وعنصري بغيض وجلاد عصره مثل صدام حسين الذي ملأ العراق بالمقابر الجماعية ومارس جريمة إبادة الجنس وأضاع أربعة عقود من التنمية وأعاد الشعب ثمانية عقود إلى الوراء، إلى ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ودمر كل ما بنته الأجيال السابقة وأضاع مستقبل عدة أجيال. أجل أيها السادة، إني أعتز بهذه التهمة ولن أنفيها عن نفسي، أنا أبغض وأكره حزب البعث الذي تسبب في تدمير وطني وشعبي وحرمني من رؤية أهلي وأصدقاء طفولتي، كما دمر إيران والكويت واستغرب من كل من يدافع عن هذا الحزب الفاشي وهذا الجلاد. يقيناً إن الذين يدافعون عن صدام حسين ونظامه المقبور لا بد وأنهم قد أدمنوا على الذل والعبودية.

خلاصة القول وعود على بدْ، إن التفسير المنطقي للدور الذي يلعبه مقتدى الصدر، هو تنفيذ ما يمليه عليه حكام إيران وخاصة ما تقوم به ميلشياته في المحافظات الجنوبية من تخريب وفرض تعاليم حكم ولاية الفقيه وأعمال ضد القوات البريطانية، دون أن يدرك ما تجلبه هذه التصرفات من مخاطر وخيمة على الشعب والوطن. أقولها للمرة العاشرة، لقد أثبتت تفجيرات مدينة الثورة أن مقتدى الصدر ومليشياته، أسد على النساء والطلاب وأصحاب الديانات من غير المسلمين وحمل وديع إزاء الإرهابيين.

د. عبدالخالق حسين
14/3/2006