إنقاذ العراق مسؤولية الجميع..

لقد ضاعت ثورة 14 تموز واغتيلت مع قائدها النزيه جراء تناحر القوى السياسية من ناحية والتدخل الخارجي ولا سيما دور النظام الناصري، من ناحية أخرى. كانت أخطاء القوى الوطنية جسيمة رغم تباين عواقبها. ولو كانت القيادات العراقية بمستوى المسؤولية لانتشلت الثورة وسارت بها نحو ديموقراطية تعددية مدنية راسخة، وذلك مهما كانت الضغوط والمناورات الخارجية. وتأكيدا لحقيقة تاريخية وإقرارا بها، فلم يكن ممكنا لصدام الوثوب للحكم وتحويله لشمولية فردية دموية، عنصرية، وطائفية، وزج البلاد في كوارث متلاحقة، لولا أخطاء القوى الوطنية في تموز وتكرار الخطأ فيما بعد.
أمامي لوحة العراق اليوم بعد 9 نيسان: أين ذهبت آمالنا وتفاؤلنا بعد ذلك اليوم التاريخي، الذي كان تتويجا لسلسلة تضحيات الشعب وبفضل تضحيات قوات التحالف؟! إننا لم نكن لنصل لهذا الوضع الخطير الراهن، من حرب مساجد وعمليات إرهاب يذهب الشيعة ضحاياها الأوائل، وما يقابلها من فرق الموت التي يقول مدير مشرحة بغداد إن ضحاياها يتجاوزن 7000 ضحية، ومن مخاطر الحرب الأهلية، فيما لو كانت القيادات السياسية بمستوى المسؤولية، وتعرف كيف تواجه حرب الإرهاب البعثي الصدامي ـ والزرقاوي القاعدي، وكيف تستفيد من الحرية الواسعة للسير معا لبناء العراق الجديد. وكان للتدخل المتزايد لرجال الدين ومؤسساتهم في العمل السياسي دوره الكبير أيضا في تحجيم فرص الوحدة الوطنية ولم شمل القوى المدنية والعلمانية والديمقراطية لقطع الطريق على محاولات بناء دولة دينية لن يكون استبدادها أقل تدميرا وقسرا من استبداد الفاشية المنهارة.
نعم، كما في ثورة تموز، فإن القوى الإقليمية المعادية لشعبنا والمرعوبة من الأفق الديمقراطي للعراق، تلعب دورا كبيرا لوقف تطور العراق ديمقراطيا، وتخريب الوحدة الوطنية، ومعها شبكات الإرهاب الزرقاوي التي تسللت من الحدود السورية لتكون حليفا مؤقتا لقوى البعث الصدامي وشبكات ضباط مخابراته وحرسه الجمهوري وفدائيي صدام. إن هذه القوى الشريرة المزودة بالسلاح المتطور وبالمليارات، وبالتصميم على تدمير العراق، لا تزال الخطر الأكبر على شعبنا، ويجب حشد كل القوى لضربها بقوة. وفي الوقت نفسه. ومن الملاحظ أن سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة ومواقف القيادات السياسية منذ التحرير، لم تساعد مع الأسف على مواجهة حرب الإرهاب بما يستدعيه الوضع من حكمة وواقعية، وتجرد، وحرص وطني عال، وابتعاد عن نزعات الهيمنة والاستعلاء والإقصاء. إننا نرى التنافس على المناصب، والجر والعر، وغلبة الولاء الطائفي والعرقي على مواقف القوى السياسية الكبرى، واستفحال لنزعات الهيمنة باسم الأكثرية، فيما يستغل البعث الصدامي صعود الأحزاب الشيعية للسلطة لبث سموم التفرقة، والضرب على وتر "مغبونية السنة"، واستثارتهم وشحنهم بالكراهية لتواجهها كراهية طائفية مقابلة. إن مسؤولية الوضع المتفجر الراهن لا تتحملها جهة واحدة أو حزب واحد بل يتحملها الجميع مع تفاوت في درجة المسؤولية. فالأطراف المحسوبة على السنة واجهت العملية السياسية بجفاء ومقاطعة حادة، وخصوصا هيئة علماء المسلمين البعثية الهوية، والتي لا تزال تسهم في تدهور الوضع بالدعوة المستمرة لخروج القوات الأجنبية، وإلقاء مسؤولية ما يقع على الأمريكان، وهو موقف منسجم مع القوى الصدامية والنظام السوري وبعض القوى الخليجية. ومن جهة أخرى، يواصل مقتدى الصدر دوره في نشر الفتن وشحن العواطف، وهو رجل، كما نعرف مسيّر إيرانيا، ويقوم بلعبة مزدوجة، فمن ناحية، الدعوة للأخوة الشيعية السنية، ومن ناحية دفع عناصر جيش المهدي للهجوم على مساجد السنة في بغداد واحتلالها. ومعلوم أن عمليات احتلال المساجد بدأها أعوان الصدر منذ اليوم الأول للتحرير، لولا أن وقف ضدها بقوة المرجع الشيعي الأعلى ودعا لإعادة المساجد لأهلها. أما التنظيمات السياسية الشيعية الأخرى فهي تواصل الاحتفاظ بالمليشيات رغم تحريم الدستور لوجودها، ويقول السيد بيان صولاغ أنه لا يوجد أي سبب للخوف منها!! والواقع يقول إن الاتهامات ضد المليشيات تتكاثر، سواء في انتهاكات البصرة أو في بغداد نفسها. وقد قال المسؤول السابق عن حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، جون بيس، في 26 شباط الماضي:
" إن مئات العراقيين يعذبون حتى الموت شهريا في العاصمة بغداد وحدها على أيدي فرق التصفية التابعة لوزارة الداخلية العراقية" وأضاف أن ثلاثة أرباع جثث القتلى في مستودع الجثث في بغداد تحمل آثار التعذيب بالمثقاب أو حرق بالسجائر وطلقات نارية في الرأس، ونفذت معظم التصفيات المليشيات التي تعمل لوزارة الداخلية. ليست هذه المعلومات جديدة وما جرى في الجنوب أكثر، فضلا عن مطاردة المسيحيين والصابئة المندائيين والنساء السافرات والفنون الجميلة. فهل هذه هي السياسات التي نعالج بها آثار القهر الدموي الفاشي لنظام صدام، وممارسات التعذيب حتى الموت في زنزانات نظامه، وحفر القبور الجماعية، وحروب الأنفال، وعمليات التهجير الطائفية؟!
خلال المرحلة الفائتة ولليوم، جرى تحجيم القوى العلمانية، بينما يتسع ويتصاعد تدخل رجال الدين وأئمة الجوامع في تفاصيل السياسة. إن مواقف التهدئة والدعوة للصفاء من جانب المرجعية الشيعية العليا بعد التفجيرات المجرمة في سامراء، تستحق كل تقدير وشكر العراقيين؛ مثلما كانت من قبل دعواته في بداية التحرير لوقف الاستيلاء على مساجد الآخرين، والدعوة لاتخاذ موقف واقعي حكيم من قوات التحالف، التي قامت بتحرير العراق مما مكن العراقيين من التمتع بأوسع الحريات. غير أن هذه المواقف الأخلاقية والإنسانية والروحية المباركة شئ، ومحاولات زج المرجعية الجليلة في تفاصيل العمل السياسي شئ مختلف تماما. وهذا ما بيناه وكتاب آخرون عشرات المرات.
أما الجبهة الكردستانية فقد لعبت في مؤتمر لندن قبل التحرير مواقف مرنة وساعدت على حل خلافات كثيرة بين القوى الأخرى. واستمرت المواقف المرنة والمؤثرة للجبهة، كما كانت تجربة رئاسة مام جلال ناجحة ونافذة، لا سيما وقد كان يتصرف كعراقي أولا. وفي نفس الوقت شهدنا مطالبة أكثر من مليون توقيع بالانفصال، تحت تأثير الشحنات القومية الصرف؛ هو ما عارضه القادة الأكراد. وفي اللحظات الراهنة، وحيث مخاطر الاحتقان وتزايد عمليات الإرهاب البعثية والقاعدية، ضد الشيعة خاصة، وحيث ترتفع الأصوات لقيام حكومة وطنية موسعة عاجلة، أرى وجوب اتخاذ مواقف مرنة جدا من مسألة الترشيح لمنصب رئيس الوزراء إن من الواجب تجاوز الأزمة التي تزيد الوضع العام تدهورا وهشاشة. شخصيا لدي تصورات معينة أخرى عن الحكومة المطلوبة لوضعنا الاستثنائي والمتوتر الراهن، وعبرت عن رأيي في مقالي السابق.
إن الوضع الراهن لا يحتمل استمرار وتفاقم أزمة سياسة حكومية بينما البلد على وشك الانفجار. يجب تشكيل حكومة وطنية موسعة بلا خطوط حمر وبلا شروط، لكي يتجاوز البلد تدريجيا هذه المحنة، وبذلك أيضا نستعيد شيئا من ثقة المجتمع الدولي، التي تزعزعت لحد كبير نتيجة الصراع العراقي ـ العراقي! إن الوضع الحالي يثير قلق المجتمع الدولي المتعاطف معنا، وتعرب كثرة من المقالات الأمريكية عن الخوف من اندلاع حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وتزيد في حالة الانفجار من الضغط داخل الولايات المتحدة للخروج من العراق.
إن إنقاذ البلد يتم من خلال روح التضحية والمسؤولية عند كل الأطراف والتمسك بقواعد العمل الديمقراطي، بدلا من اللجوء في كل مرة لاستغلال اسم المرجعية الشيعية العليا، التي يجب أن نعطيها متنفسا لنشر قيم الخير والمحبة ومواصلة دعواتها النبيلة لضرب ومكافحة شرارات الفتن والبغضاء.

خاص بالجريدة
عزيز الحاج
5 مارس 2006