لهفي على هذا العراق!

-1-
ما الذي يجرى الآن في العراق؟
ويا أيها السياسيون العراقيون الطائفيون، لماذ تمارسون كل هذا العذاب على شعب العراق؟
ألا يكفي الشعب العراقي كؤوس المُرِّ التي ذاقها طيلة أكثر من ثلاثين عاماً من حكم صدام؟
ألا يكفي الشعب العراق ما قدمه من الشهداء ضحايا للارهاب العربي والديني المجنون، والذي ما زال مستمراً حتى الآن؟
ألا يكفي الشعب العراقي هذا الحياة اليومية المعذَبة والقاسية، التي يعانيها كل يوم نتيجة انقطاع الكهرباء والغاز والماء، وكل وسائل العيش المريح؟

-2-
أهذا هو جزاء الشعب العراقي أيها الساسةُ الطائفيون، على ما قدم لكم من تضحيات، أيام خرج إلى صناديق الاقتراع ثلاث مرات تحت التهديد والوعيد بالموت والدمار، لكي يوصلكم إلى مراكزكم الحالية، ومقاعدكم الوثيرة في المنطقة الخضراء؟
كان على الشعب العراقي أن لا يكون طيباً وصادقاً معكم إلى هذا الحد ؟
ولكن الشعب العراقي افتدى العراق بنفسه وأهله وأطفاله، وأنتم لم تفتدوا العراق ولو بنواة حبة تمر!
كان على الشعب العراقي أن يحاسبكم حساباً عسيراً على ما فعلتم به طيلة سنوات ثلاث، ويشترط عليكم شروطه الصارمة القاسية الضامنة لحقوقه، قبل أن يذهب إلى صناديق الاقتراع وينتخبكم؟

-3-
من هو صاحب الحق، في أن تتعطل البلاد مدة شهرين منذ جرت الانتخابات التشريعية الأخيرة إلى الآن، لأن السياسيين الطائفيين، بل الموغلين في الطائفية، اختلفوا على قسمة الكعكة العراقية، وتركوا الشعب العراقي جائعاً معذباً ، مهدداً بالموت والخطف والتنكيل؟
من هو السبب في أن يفكر اتباع صدام حسين في المنفي الآن بتأليف حكومة منفى عراقية، وساسة العراق في الداخل عاجزين عن تأليف حكومة وطنية، ومختلفين على تقسيم كعكة الحكم بينهم.
لا زعماء علمانيين وطنيين في العراق؟
لا زعماء ليبراليين مخلصين في العراق؟
لا زعماء يؤثْرون العراق ومستقبل العراق على أنفسهم، وطوائفهم، وتعصبهم؟
أين هم، وما هذه النار الطائفية الظاهرة والمختبئة التي تكاد تحرق نخيل العراق، وتجفف دجلة والفرات، وتدمر العراق كله؟
اتقوا الله في العراق أيها السياسيون الطائفيون، وتذكروا ما كان عليه العراق، قبل التاسع من نيسان المجيد 2003.

-4-
ماذا يقول العالم عنكم أيها السياسيون الطائفيون، وهو الذي وقف إلى جانبكم – كمعارضة – ودعمكم ضد النظام البائد؟
لقد خذلتم العالم بأفعالكم المشينة هذه، وأنت تنظرون إلى الارهاب اليومي فلا تفعلون شيئاً، وتنظرون إلى الفساد فلا تحركون ساكناً، وتنظرون إلى نهب المال العام ولا تقيمون ميزاناً، وتنظرون إلى الدم البريء الزكي وهو يجري أنهاراً في شوارع العراق، وانتم في المنطقة الخضراء تنعمون برغد العيش. وتنظرون إلى الفراغ السياسي القائم منذ مائة يوم ولا يدفعكم حب العراق وشعب العراق إلى التضحية بالكراسي والمراسي، والقيام بتأليف حكومة وطنية عاجلة نتيجة للحالة الصعبة والملحة التي يعيشها العراق والشعب العراقي الآن.

-5-
لقد خذلتم الشعب الأمريكي الذي قدم لكم من جيبه، ومن قوت أبنائه مئات المليارات من الدولارات لاصلاح ما أفسده صدام حسين، ولبناء ما هدمه صدام حسين، ولتعمير ما دمره صدام حسين بحروبه الدونكيشوتية المجانية.
لقد طأطأتم رؤوس القادة الأمريكيين الذين أرسلوا الآلاف من أبنائهم الجنود للقبض على صدام حسين، وتقديمه إلى العدالة، وقدموا أبنائهم فداءً للعراق، قبل أن يقدم العراقيون أنفسهم أبنائهم فداءً للعراق. لقد بعثتم الخيبة في نفوس الليبراليين العرب الشرفاء، الذين وقفوا إلى جانب معركة الحق والحقيقة في العراق، منذ مطلع فجر التاسع من نيسان 2003 وإلى الآن. ولكن هذه الخيبة كانت منكم، وليس في الشعب العراقي.

-6-
من أين نأتي للعراق بحكامٍ، إذا كان حكامه على شاكلة صدام حسين، والشلل السياسية التي ورثته، والموجودة الآن على الساحة العراقية، تتنازع على المناصب تاركة الوطن لنهب الناهبين، وسرقة السارقين، وارهاب الارهابيين؟
هل تريدون من العراق أن يعلن انضمامه إلى الاتحاد الأوروبي، ويُعيّن مندوباً سامياً أوروبياً لادارته؟
والله لو استُفتي الشعب العراقي على ذلك لأجاب بنعم، ونعمين!
هل تريدون من العراق أن يعلن نفسه الولاية الواحدة والخمسين الأمريكية، ويعين على هذه الولاية حاكماً أمريكياً؟
والله لو استُفتي الشعب العراقي على ذلك لأجاب بنعم، ونعمين!
لقد قدمت أمريكا لكم كل ما يحتاجه الشعب العراقي لاقامة دولته القوية: المال، والقوة العسكرية، والتقنية، والخبراء، والمستشارين، ولكنها لا تستطيع أن تقدم الحكام والسياسيين الشرفاء الذين يفتقدهم العراق.

-7-
لهفي على هذا العراق الجميل، كيف يحاول سياسيّوه اليوم قتله للمرة الألف، بعد أن قتله ومثّلوا به الحكام السابقون على مر القرون.
لهفي على هذا العراق البديع، الذي ابتُلي بالطائفية منذ قرون طويلة. وما شدة لهيب الطائفية الآن على هذا النحو إلا بفعل أجواء الحرية والديمقراطية التي جاء بها فجر التاسع من نيسان 2003، فكشف الغطاء عن قِدْرِ الطبخ الذي كان تغلي فيه الطائفية العراقية، وتفور فوران البراكين المدمرة.

-8-
هل سمعتم أيها السياسيون الطائفيون، ماذا يقول عنكم أعداء العراق في العالم العربي؟
يقولون: أنظروا إلى الديمقراطية العراقية والحرية العراقية المزعومة، ماذا فعلت بالعراق، لقد جاءت لهم بالخلافات الطائفية التي ستؤدي إلى حرب أهلية تدمر العراق، وتعيد له صدام حسين وحزب البعث لكي يبنيه من جديد، فلقد هرب العراقيون من تحت دلف صدام، إلى تحت مزراب السياسيين الطائفيين؟
ولا يدرون أن الطائفية في العراق كانت موجودة، منذ قرون وكانت تغلي في قِدْرِ الضغط، وتكاد أن تنفجر في أي لحظة في عهود الاستبداد الماضية، وكان سقوط العهد البائد بمثابة كشف غطاء هذا القِدْرِ، وتنْفيسه، واخماد ثورته. ولكن يبدو أن سياسيي العراق الجديد، هم من أعاد الغطاء لهذا القِدْر لكي ينفجر يوماً صراعاً، لا يُبقي ولا يَذْر.

-9-
لهفي عليك أيها العراق الحزين اليوم، وانت بدون حاكمٍ مستبد، يضبط فلتان الأمن والشارع العراقي، ويقطع رؤوس اللصوص والشرفاء معاً، وبدون حاكم ديمقراطي عادل، يُفرّق بين اللصوص والشرفاء، ويعيد للعراق أمنه وسلامه، ويؤمِّن لقمة عيش أبنائه، ويحميهم من الارهاب.
لهفي عليك أيها العراق، يا هذا النسر المكسور اليوم، وأنت تنـزفُ دماً طاهراً طهوراً، وأبناؤك من السياسيين الطائفيين، يختصمون على الكراسي والتباسي والمنافع والمراتع، وكلٌ يُديرُ النارَ على قُرصه، والعراق يحترق!
لهفي عليك أيها العراق المجيد، وأنت لا تجدُ من بين أبنائك الصادق الأمين، الذي يصدْقَ شعبه، ويضع وطنه أمانة غالية في عنقه.
لهفي عليك أيها العراق.
ولكن هيهات أن نستوحش طريق الحق لقلة سالكيه، كما يقول كريم الوجه الإمام علي.

-10-
ويا عراق.. يا عراق:
ما كنتَ إلا غمامـاً زالَ عن أفقٍ
من بعـد ِما كفّت الدنيا غواديكـا
وطود ُحلمٍ هوىً من بعدِ ما زحمتْ
وكرُ السمـا ونسريهـا معاليكـا
ما أنـتَ ميتٌ وهذا الذكـرُ منتشرٌ
وإنمـا نحن موتى من تناسيكــا

د. شاكر النابلسي
المصدر: إيلاف، 3/3/2006