الوضع العراقي من خارج العراق..

منذ تفجيرات سامراء، برز الوضع العراقي للواجهة مجددا في الصحف الغربية والعربية. وتتراوح التحليلات ما بين محاولات موضوعية غربية وبين تشويه في عدد من وسائل الإعلام العربية، كالجزيرة وأخواتها. ورغم ذلك، فيبدو لي أن ثمة شبه اتفاق بين عدد كبير من المحللين على ما يلي:
أولا: إن انفجار الوضع العراقي لو تم، سيهدد المنطقة العربية؛
ثانيا: إن إيران هي الرابح الأكبر من التوتر الراهن، وهي تستغل التفجيرات لحشد أدواتها في العراق للتحريض ضد القوات الأمريكية والمطالبة بخروجها، وهذا بالضبط مطلب إيراني ـ سوري. وعلى هذا الهدف يلتقي أمثال مقتدى الصدر وفلول البعث وشبكات القاعدة في العراق وخارجها. ومما يجب عدم نسيانه مظاهرات تكريت في العام الماضي، التي رفعت صور صدام ومقتدى والخالصي، وهذا يذكر بمناسبة الاجتماع الذي تم قبل يومين في جامع أبي حنيفة وحضره السادة ثنائي الخالصي ومقتدى مع حارث الضاري، الذي عرفنا مواقفه السابقة في التغطية على عمليات الإرهاب البعثية. إن هذه الإشارة منا لا تعني عدم تأييدنا لكل خطوة، وممن صدرت، تسهم بشكل ما في نشر التهدئة، ومكافحة التوتر بين الشيعة والسنة؛
ثالثا: إن تفجير المرقدين وحرب المساجد وعمليات القتل المتبادلة التي أعقبتها، واضطراب الأمن لحد الخطر، سترغم الأمريكان على إعادة حساباتهم حول تقليص القوات هذا العام وتسريع الانسحاب. وخلافا لكل ما يصرخ به الصدر وأعداء الديمقراطية في العراق والمنطقة، فإن حملات التحريض ضد القوات المتعددة الجنسيات وحشد الشارع لهذا الغرض لن تفلح في تسريع جلاء تلك القوات، لأنها توجد في العراق بقرارات حكومة منتخبة وبقرارات دولية، وإن وجودها محدد بتحقيق أهداف تحقيق الديمقراطية، والسلم الأهلي في العراق وبما يخدم أيضا استقرار المنطقة، وتدريب القوات العراقية تدريبا متواصلا وفعلا لكي تكون قادرة على حفظ الأمن لوحدها؛ وهذه مع الأسف ليست الحالة اليوم. طبعا ما من أحد يريد بقاء ولا جندي أجنبي واحد على أراضينا. وكان بريمر نفسه قد كتب مقالا بعنوان "لا أحد يحب الاحتلال." وبما أن معظم القيادات العراقية الرئيسية، ورغم خلافاتها، متفقة على استمرار الحاجة لهذه القوات فترة أخرى، فإن كل تصعيد للعداء وشحن الغرائز ضدها لا يصبان في خدمة مصالح الأمن العراقي، بل يخدمان حسابات ورغبات خارجية، لا سيما إيرانية وسورية. ففي طهران ترتفع الصرخات والشعارات ضد أمريكا[ مقرونة بإسرائيل]]، وفي مدن عراقية كالبصرة وبغداد والكوت وغيرها، ترتفع صرخات مماثلة، بمبادرة وتحريض مقتدى الصدر بعد وصوله من طهران. وعلى هذا الضوء أيضا يمكن فهم مغزى سفرات أحمدي نجاد للدول العربية، أملا في تجميع كافة المسلمين،[ كما يتوهم]، باسم الوقوف ضد الغرب وأمريكا "عدوتي الإسلام". هذا أيضا ما دلت عليه قضية رسوم الكاريكاتير، التي كان النظامان السوري والإيراني هما الأكثر استغلالا سياسيا لها في مواجهة الضغوط الدولية.
إن من المقالات الجديدة لما بعد التفجير استوقفنا مقال تحليلي ضاف نشرته النيويورك تايمس ونقلته عنها الهيرالد تريبيون على الصفحة الأولى في عدد 27 شباط الجاري للكاتب ميشيل غوردون. عنوان المقال الأول هو: " نذر سيئة للدول العربية"، مع عنوان آخر: "يرى العرب أن الاستقرار الإقليمي في خطر". ويقول الكاتب إنه قد استفاد في كتابة المقال من إسهامات صحفيتين هما نزيلة فتحي من طهران ومنى النجار من مصر. ونستعرض فيما يلي أهم أفكار المقال، وهي بالطبع مفتوحة للنقاش ولتبادل الاجتهادات.
يقول الكاتب:
" حتى قبل تفجير أحد المراقد الشيعية الأكثر قدسية، ساعدت الفوضى العراقية على تصعيد النفوذ الإقليمي الإيراني ـ وهذا مصدر قلق كبير للكثير من حكومات المنطقة التي يقودها السنة، بينما في الوقت نفسه قدمت هذه الفوضى لمؤيدي القاعدة موقع قدم جديدا في المنطقة. غير أن القصف نفسه، وخطر الحرب الأهلية الطائفية الشاملة، يحملان نذرا للشرق الأوسط." ويشير المقال لوجود أقليات شيعية في تسع بلدان من المنطقة، حيث يتعايش الشيعة والسنة، وتخاف دول عربية عديدة أن يؤدي الانفجار في العراق إلى نزاعات داخلية لديها." إن تصاعد التوترات في العراق يقع أيضا في وقت توجد فيه قنبلتان أخريان قابلتان للانفجار، وهما تصاعد مواقع الأحزاب الإسلامية كحماس في غزة والإخوان المسلمين في مصر، وتصعيد جهود القيادة الإيرانية لتحاول مجددا نشر أفكارها على نطاق المنطقة. إن ما هو مصدر قلق كبير هو كيف ستتفاعل مجموعة هذه القوى، وكيف ستؤثر إحداها على الأخرى في نهاية المطاف." ويشير المقال إلى مخاوف الدول العربية أيضا من أن يؤدي الانفجار في العراق إلى تدفق آلاف المهاجرين العراقيين الجدد، مما لا تستوعبه اقتصادياتها ذات المشاكل، ولاسيما الدول التي ليس لها بترول، أو عندها قليل منه، كالأردن مثلا. أما السعودية، فتخشى تزايد العمليات الإرهابية للقاعدة على أراضيها فيما لو قويت مواقع القاعدة في العراق. كما وتخشى مصر من الخطر نفسه نظرا لأن المصريين يشكلون عددا كبيرا من الإرهابيين الأجانب في العراق اليوم كما سابقا في أفغانستان. ويقول المسؤول المصري هشام يوسف:
" أعتقد أنه لو وقعت حرب أهلية في العراق، فإن نتائجها ستفوق التوقعات. إن هذا سيؤدي إلى أسوا سيناريو ليس للعراق وحده، بل لكل المنطقة." ويرى كاتب المقال غوردون أننا عندما نزن الدور والتأثير الإقليميين عند وقوع أية حرب طائفية في العراق، فإن الكفة الإيرانية هي الراجحة. فقد أدى التوتر الأخير في العراق لتقوية النفوذ الإيراني، في الوقت الذي تواصل فيه إيران تحدي الغرب حول البرنامج النووي. لقد روجت إيران بأن التفجيرات كانت من فعل عملاء إسرائيل، وهي بهذه الدعاية تهدف لجميع المسلمين بقيادتها. إن إيران في نظر مراقبين عديدين في المنطقة تلعب لعبة مزدوجة: فهي قد دعت للتهدئة مما أكسبها تقديرا مرا من الزعماء العرب؛ أما من الجهة الثانية، فإن إيران تستخدم الفوضى العراقي كورقة لصرف اهتمام أمريكا عن مشروعها النووي. لقد كتبت صحيفة إيرانية في افتتاحيتها ما يلي:
"صحيح أن من قاموا بالتفجيرات هم مجموعة مضللين من السنة ومن السنة المتطرفين.. ولكن الجميع يعلمون أن هؤلاء هم أدوات قوى الاحتلال.... وخلال السنوات الماضية تدربت هذه العناصر بالأموال الأمريكية والبريطانية ليظهروا بوجه معاد لأمريكا، إلا أنهم في الحقيقة عملاؤها. إنهم في الحقيقة أبناء الشيطان الذي احتل العراق في حينه"!!!
ترى من تقصد الصحيفة؟!! هل القوات العراقية التي تدربها القوات الأمريكية والبريطانية؟ أم أطراف هم اليوم في السلطة والبرلمان؟؟ إن الكاتب غورون يرى أنه مع كل الاحتمالات، ما بين حكومة منتخبة ديمقراطيا، وبين تفتيت العراق لمناطق طائفية وعرقية، فإن إيران ستخرج بدور أكبر من أي وقت مضى منذ 1979. ويرى عبد الرؤوف الزيدي، رئيس المجلس المصري المستقل للشؤون الخارجية، أنه كان ثمة على الدوام نوع من التوازن بين العراق وإيران؛ فإذا تفكك العراق، فسوف تصبح إيران أقوى دولة في المنطقة. إن هذه أطروحة نراها من جانبنا تستحق نقاشا موسعا، لأن إيران كما نرى لن تنجو بشكل ما من عواقب أي انفجار وصدام عنيفين في العراق، لما قد يسببانه من مضاعفات إقليمية ودولية حادة.
ويمضي الكاتب في القول بأنه، بينما أدت المواقف الغوغائية للرئيس الإيراني إلى عزلتها عن الغرب، فإن هذه الغوغائية وجدت شيئا من التضامن والدعم في المنطقة، وإن ردود الفعل على رسوم الكاريكاتير ساعدت على توحيد المسلمين ضد العدو المفترض. ويستدرك المقال بأن مثل هذه الوحدة، واحتمال نشر إيران لأفكارها بين المسلمين السنة، سوف يتقوضان في حالة اندلاع حرب طائفية في العراق. يختتم المقال قائلا:
"لحد اليوم، لا تزال إيران متمسكة بدعايتها العامة [أي الغوغائية]، وقد حاولت استغلال الهجوم على المرقد الشيعي كعنصر آخر لتوحيد المسلمين؛ إلا أن هناك الكثيرين في المنطقة ممن يشكون في صدق إيران، ويرون اليد الإيرانية في الفوضى العراقية الراهنة."
إن من المدهش في رأينا هو أنه، بينما تقلق دوائر عربية عديدة من احتمالات الانفجار العراقي، فإن الدول العربية لا تزال سلبية نحو العراق، وهذه سلبية بدأت منذ سقوط النظام السابق. وهل ننسى تعامل عمرو موسى والجامعة مع مجلس الحكم، وصدور فتاوى دينية لتحريم التعامل معه؟؟ وهل يمكن تجاهل مسؤولية دول عربية وأموال عربية في تمويل وإرسال الإرهابيين، ناسين أن منهم من سيرجعون لتنفيذ الإرهاب عندهم، فينقلب السحر على الساحر! وانظروا، بالمقارنة، مساعي وجهود حكومات دول عربية كبيرة لإنقاذ النظام السوري من عزلته الدولية، ومحاولة التوفيق بينه وبين الشعب اللبناني قبل الرضوخ التام لقرارات البعثة الدولية؟ بل وجندوا حتى المغني الغوغائي شعبان عبد الرحيم للتغني بسوريا وشتم الأمريكان!
إن الانفجار في العراق سوف "تتجاوز نيرانه الحدود العراقية"، كما يكتب الأستاذ أحمد الربعي في 27 شباط بالشرق الأوسط. ويقول أيضا:
" ويخطئ من يعتقد أن شتيمة المحتلين الأميركيين والشماتة بهم هما عمل وطني، في وقت يتفرج فيه العرب على العراق. والذين يرفعون شعارات انسحاب الأميركيين من العراق ليس لديهم أي مشروع بديل، وهم يغامرون برفع شعارات كبيرة للاستهلاك بدون أن يبدي أحد منهم استعدادا لدعم هذا الشعب.. المنكوب." وفي ختام مقاله المركز يقول الربعي:
" مطلوب قليل من الخجل العربي، ومطلوب بعض الدروس في الجغرافيا للتأكد من أن العراق يقع في قلب الأحداث، ودرس في التاريخ للتأكد من أن احتراق بيوت الجيران أمر خطير."
ألا، ما أحسن، وما أبلغ، ما قاله الربعي!

عزيز الحاج
28 شباط 2006