الجلسة 12 لمحاكمة صدام حسين
- أثلج صدري استخدام القاضي رؤوف رحمن مطرقة القضاة الخشبية لاسكات بعض المتهمين المتجاوزين.ولكن…
فات القاضي ان يستخدمها ضد صدام حسين وبرزان التكريتي.
اقول للقاضي : لا تخف في الحق لومة لائم يا رجل واستخدم المطرقة ليفهم صدام معنى الحالة وانه في قفص الاتهام وليكف هو وانصاره عن الاوهام صدام يستخدم
بعض الايات القرانية للدلالة على ان الله معه وسيحقق الحق وهكذا كان الامر مع ابنته رغد في لقائها مع العربية ولكنه نسي ان العراقيين المؤمين يفهمون الامر على
العكس، إذ يرون ان الله انتقم لهم احسن انتقام باذلال صدام وخلعه عن العرش ووضعه تحت اقدام اعادئه الامريكان، وفي ذلك إلال ما يعده إذلال.
- فات القاضي والمدعي العام ان يطرحا على الشاهد فاضل صليفج العزاوي عندما اعلن في المحكمة انه ابن خالة برزان وصدام السؤال التأكيدي التالي ( يعني امك
هي اخت صبحة؟؟؟ ) ولو سأل
ألمتهم صدام حسين ( ماذا تعني بذلك ؟) يكون جواب القاضي( لا اعني شيئا بس حبيت اتأكد)...
- القناة الفضائية السورية كانت ممتعضة اليوم من برزان وصدام ولم تعر لهما الاهمية الكافية والسبب هو تصريحات برزان ضد النظام السوري حين قال: ( في
الحقيقة انا طول الطريق كنت افكر بامر واحد فقط هو كيف اضبط نفسي واتصرف بشكل سليم ولا اضر احدا. انا فكرت بما عمل رفعت الاسد حين علم بمحاولة
اغتيال اخيه حافظ الاسد، رفعت الاسد قام في الحال بارسال طائرات وقصف المدينة التي جرت فيها محاولة الاغتيال بدون تمييز بين هذا وذاك من الناس، انا لم افعل
ذلك.)
- في محاولة غبية من صدام حسين للظهور بمظهر( القائد) الذي لايخاف شيئا بعد هزيمته في المعركة ( بعد وكت يابه ... إذا هيجي سبع ليش نزلت بالحفرة؟؟؟؟ كان
يكفي ان تتذكر ابنيك وطريقة موتهما ) كشف في المحكمة انه كان الآمر الناهي في العراق ونسي ( كلامه ) وكلام البعثيين عن التفكيرالجماعي والحزب ومجلس القيادة
واكد عدة مرات ان الذين كانوا يجلسون معه (لايحلون ولا يربطون) وانما خراعة خضرة أو طراطير، كما كان العراقيون يعلقون في نكاتهم على ابو الثلج عزت
الدوري. وبذلك وقع صدام في الفخ الذي نصبته له المحكمة وحاول برزان( الذكي ) تجنبه مرارا. برزان كان يحاول القاء كل المسؤولية على عاتق الامن العامة
وبالذات فاضل البراك( الميت) وانها كانت تصرفات لاتعلم بها القيادة، ولكن صدام وبغبائه المعهود صار( نشمي) وقال ( لا احد يقدم على اي تصرف دون علمي ).
وهذا هو المطلوب من المحاكمة ان تثبت للعالم (وخاصة خرفان العروبة) ان صدام حسين شخص سادي ليس له ذمة ولاضمير، ولم يكن الا دكتاتورا معتوها.
- القاضي الحازم رؤوف اعاد صدام واخيه الى الطاعة وصاروا يخاطبون رئيس المحكمة والمدعي العام ( سيادة الرئيس.. سيدي القاضي... ) عفية رؤوف.
- شم برزان من شهادة فاضل صلفيج العزاوي انه قال شيئا ما للمدعي العام ضدهم( هو وصدام) فصار يحط من شانه ويقلل من قيمته من خلال اظهاره بمظهر(
الدكتور المثقف) الغبي الذي لم يتعلم شيئا من عمله في المخابرات مع انه عمل فيها خمس سنوات في حين ان اي موظف بسيط يتعلم احسن منه في خلال شهر
واحد.
- نفى طه ياسين رمضان ان يكون شكل هيئة خاصة بقضية الدجيل لانه ( نائب رئيس وزراء) اي اكبر من هذه القضية، وهو محق في ذلك لان البعثيين لايحتاجون
الى هيئات تحقيقية ومحاكم، ويكفي لمن يريد معرفة اساليب البعثيين في التحقيق والمحاكمة العودة الى كتاب الوزير الناصري السيد احمد الحبوبي( ليلة الهرير في
قصر النهاية) وكيف كان طه الجزراوي يحاكم الناس في قصر النهاية.
واليكم ايها القراء فقرات من كتاب السيد احمد الحبوبي ومن اراد المزيد يمكنني ان ابعث له
((فنزلوا بنا سلالم، وكان راهي يمشي امامي وانا خلفه، كان قصيرا، وبدينا الى حد، يرتدي الزبون، فوق الدشداشة، والسترة فوق الزبون، حاسر الرأس، ولما وصلنا
الى الطابق الارضي اشار شاب الى باب يؤدي الى خارج البناء قائلا للحراس «فوتوا من هنا» سرنا بضع خطوات، واذا بي اجد نفسي في الحديقة، اي المكان الذي
تنفذ فيه الاعدامات، فأيقنت ان الساعة قد دنت وان اعدامنا سينفذ هنا في هذه الساحة التي شهدت كل الاعدامات.
كنت اسير خلف راهي ويسير خلفنا الحراس، برشاشاتهم ويدفعوننا دفعا الى وسط الحديقة، فوقفت في مكاني ورفضت ان اخطو خطوة واحدة، وصحت بأعلى صوتي
«اسمعوا يا جماعة انا لا اخاف من الموت فهو حق علينا جميعا، ولكن لن اموت بهذه الصورة، وقبل ان احاكم، فأين المحكمة والمحاكمة؟ وكيف تريدون اعدامنا دون
محاكمة، فأنا لم يأخذ احد اقوالي، ولم يحقق معي ولن اسير او اتحرك من مكاني»، كنت اتكلم بصوت عال، فالموقف لا يحتمل السكوت، فها انا في ساحة الموت،
وامامه وهذه لحظة حاسمة، وما ان سمع راهي كلامي حتى رمى «اللفة» من يده ورجع بسرعة، ووقف بجانبي، والتصق بي، فقد احس بخطورة ما قلته، وهنا تكلم احد
الحراس طالبا السير بلهجة لطيفة قائلا «تفضل استاذ امشي لا تخاف» فقلت له «اسمع اخي انا غير خائف ومستعد للموت، ولكن ليس من دون سؤال، وجواب،
وتحقيق، ومحاكمة، يا اخي يمكن عندي وصية لاهلي» وهنا قال راهي «اي.. اي..» فما كان من الحراس الا ان أخذوا يدفعوننا بكعوب رشاشاتهم طالبين مواصلة
السير بالقوة دون جدوى، فقد تشبثت وراهي في مكاننا وانا اصيح فيهم ولا اتزحزح، «اين المحكمة؟» واذا بشاب يطلع علينا من القصر، مسرعا وهو يقول: «ها خير
استاذ ليش تصيح» فقلت له: اي خير اخي الم تر بعينك انهم يدفعوننا الى الموت بدون محاكمة، انا ارفض التحرك من مكاني، انا اطالب بمحاكمة، ثم افعلوا بعد ذلك ما
تشاءون.))
((انه الجزراوي!
وقفنا وسط الصالة ننتظر، ومرت لحظات وإذا بمجموعة عن عسكريين ومدنيين يخرجون علينا من غرفة جانبية ويتجهون نحونا، وسمعت الحارس الذي قادنا الى هذه
القاعة يقول (هذا سيادة رئيس المحكمة لحد يتحرك) واتجهت انظارنا نحو رئيس المحكمة وكان يتقدم المجموعة، وإذ به ضابط برتبة رئيس اول، اسمر اللون، مربوع
القامة ممتلئ الجسم، لونه يميل الى الصفرة، ويتدلى من وسطه مسدس، وكان حاسر الرأس، هذا إذاً رئيس المحكمة الخاصة الذي سيحاكمنا، هذا هو (طه الجزراوي)!
وقف غير بعيد من دائرتنا ووقف بجانبه وخلفه مجموعة من الافندية والضباط، ولم اعرف احدا منهم سوى (محمد فاضل) الذي كان عضوا في محكمة الثورة
التي حاكمت العميد عبدالهادي الراوي. وكنت وكيلا عنه، في دعوى اتهم فيها مع مجموعة من عسكريين ومدنيين بالتآمر لاطاحة بنظام البعث).
اني اراه الان يقف بجانب طه الجزراوي ويحمل اوراقا كثيرة فقلت ماذا يعمل هنا، فهو ليس عضوا في هذه المحاكمة فالعضوان الآخران هما ناظم كزار، وعلي رضا،
ثم استدركت ما أغباني! إني أبحث عن الصفة الرسمية، والقانونية، لهذا الشخص، ولمثله، وعن معنى وجوده هنا، فإن لم يكن هنا الساعة، فأين يكون إذاً! هذا هو مكان
القتلة!
اعترفوا أحسن!
تفرست في وجوه الآخرين من مدنيين وعسكريين ولفت نظري أن محمد فاضل «أعدم مع ناظم كزار ومجموعة من البعثيين بتهمة التآمر سنة 1973» ينظر نحوي
بطرف عينه، وكأنه لا يريدني ان اشعر بذلك، مرت لحظات والكل ينظر الى رئيس المحكمة ونطق أخيراً الجزراوي، فقال موجها كلامه إلينا «اسمعوا... انتو
مشتركين بالمؤامرة القذرة اعترفوا أحسن إلكم.. امامكم ربع ساعة حتى تعترفوا.. ومصير اللي ما يعترف مثل هذوله اللي شفتوهم الآن معدومين بالساحة.. إسمعتوا؟»
ثم سكت!
هذا ما نطق به رئيس المحكمة التي ستحاكمنا بالعدل والقسطاس، ووجدتني أردد مع نفسي «أكلناها والله، رحنا بشربة ميه، والله يرحمنا» ثم التفت طه الجزراوي الى
محمد فاضل وقال له: «وزع عليهم الورق» هنا صاح العميد شاكر مدحت السعود «يا جماعة، آني ما مشترك بالمؤامرة» فما أنهى جملته، حتى انقض عليه بعض
الواقفين وأخذوا يضربونه على وجهه ضربات سريعة «سطرات ولكمات» والرجل يحجب بيديه دون جدوى، فرثيت لحاله. يُضرب لأنه تجرأ وقال شيئاً امام رئيس
المحكمة، وكان عليه ان يتأدب في حضرته ولا يفتح فمه بكلام يدافع فيه عن نفسه، انه لم يقل أكثر من أنه لم يشترك في المؤامرة، فمن حقه ان يقول ما يشاء في
موقف كهذا.. ضرب الرجل بشدة وسرعة، فتراجع إلى الخلف اتقاءً للضرب، ولملم نفسه، ووقف ساكتاً، وهنا انبرى حسن العكيلي وكان احد المتهمين، قائلاً: «يا
جماعة آني أمي ما اعرف اكتب». فابتسمت في سري لكلمته، فقد هزتني من الأعماق لأنها كانت صادقة وبريئة ومفحمة، فرئيس المحكمة يريد اعترافا خطياً، والرجل
لا يعرف القراءة والكتابة، فرئيس المحكمة يريد اعترافاً خطياً، والرجل لا يعرف القراءة والكتابة، وأعلنها جريئة وصريحة، اعجبتني، ولم يعتد عليه أحد كما اعتدى
على العميد شاكر فما عساهم يفعلون امام هذه الحقيقة، هل يُضرب لأنه أُمي؟ فسكتوا امام جوابه المفحم، وشعرت أنه قد انتصر عليهم.
أعطى محمد فاضل ورقة بيضاء لكل واحد منا، وبعد ان انتهى من توزيع الاوراق قال طه الجزراوي «أمامكم ربع ساعة للاعتراف.. وعدكم الأوراق يا لله اعترفوا
أحسن الكم» ثم انسحب عائداً من حيث أتى هو وبعض ممن جاءوا معه، ودخلوا الى احدى الغرف الجانبية، واندفع نحونا الحراس يدفعوننا الى جدران الصالة بحيث
يقف كل واحد ووجهه الى الحائط، ويبعد عن الآخر ثلاثة امتار تقريبا، ووقف بجانب كل واحد منا حارس يحمل رشاشا ومسدسا، يمنعنا من الالتفات يمنة او يسرة او
الى الخلف. وان فعل احدنا ذلك، يعالجه بضربة من كعب رشاشته او كفخات على رأسه، وتذكرت جماعة الامس حينما جيء بي الى هذا المكان، فها نحن نقف في
مكانهم، وما اشبه الليلة بالبارحة، وتذكرت الرجل الشاحب صاحب الزبون والسترة الذي اختفى.
لا أعلم لماذا أنا هنا؟
مسكت الورقة بيدي ورحت اتساءل ماذا اكتب! وبم اعترف! وتذكرت المرحوم الرائد عبدالستار وحواره مع الجماعة، وكيف كان مصيره، فقد اعدم لأنه علق على امر
بكلمة «سخيف»، فما هي يا ترى جريرتي التي اعدم من أجلها؟ توصلت الى يقين ان الجماعة قد جاءوا بي الى هنا من اجل اعدامي، والتخلص مني، وان زجي
واتهامي بالمؤامرة المزعومة إنما هو تبرير ليس غير، تماما كما فعلوا مع الرائد عبدالستار، صحيح انني ضد حزب البعث، وسياسته، ولكن هل استحق على موقفي
هذا الاعدام؟. وبدأوا يكتبون اعترافاتهم، وحانت مني التفاتة وإذا براهي يقف بجانبي، ولاحظت انه لا يكتب شيئا فقد مسك الورقة والقلم بيده وراح ينظر نحوي بطرف
خفي، ويخاف أن يلتفت إلى الوراء (خوفا من الكفخات)، صاح به الحارس الذي يقف بجانبه «ما تكتب اشما لك»؟ فأجابه بصوت خفيض «أغاتي شكتب» فرد عليه «
أكتب عن دورك بالمؤامرة» فأجابه «يا مؤامرة أغاتي» فأجابه هذا «عجايب علويش جايبيك لعد»؟ فأجابه المسكين «والله أغاتي ما أدري» وهنا ضاق به الحارس ذرعا
فصاح به تكتب ما تكتب يطبك مرض.
وبعد تفكير طويل وحيرة، اسندت الورقة الى الحائط وأنا استرجع، وأحوقل، واقول «ماذا تنفع الكتابة عند من لا يقرأ ولا يكتب»، يا لها من مهزلة وقررت ان امتنع
عن الكتابة، ثم تراجعت، وقلت في نفسي لم لا اكتب وان كانوا لا يقرأون، ولكني اكتب لمن يريد ان يقرأ من بعدهم وكتبت:
«انا فلان الفلاني جيء بي الى هذا المكان ولا اعلم سببا لهذا المجيء حتى الآن، فإن كان من اجل المؤامرة الامبريالية الرجعية الايرانية كما وصفت، وكما سمعت عند
الاعلان عنها من الاذاعة، فأنا رجل معروف الاتجاه والانتماء العقائدي، انا رجل وحدوي اشتراكي، واربأ بنفسي وعقيدتي وشرفي، ان اتورط، واكون ضالعا بمثل هذه
المؤامرة، والله على ما اقول شهيد..» ثم سلمت الورقة إلى الحارس الواقف بجانبي الذي كان يراقب كتابتي، فأخذها ونظر فيها قم قال بنبرة فيها تعجب وتهكم: «هذا
هو اعترافك؟» فأجبته بإيماءة من رأسي دون كلام، فسكت وظل ماسكا الورقة يعيد قراءتها وينظر إليّ كأنه غير مصدق، وهنا رأيت شخصا مقبلا نحونا يحمل ورقة
بيضاء مع قلم ويقف عند كل واحد منا فيسأله شيئا ثم يكتبه في الورقة إلى ان وصل إلى راهي فسأله «وين تسكن وشنو عنوانك ورقم بيتك بالضبط؟»، فتلعثم راهي ثم
ذكر له عنوانه ورقم بيته، ثم جاء ووقف عندي، وسألني «أين تسكن وعنوانك ورقم بيتك أستاذ؟» فأجبته أني أسكن بحي الصليخ، ولكني لا اعرف رقم بيتي «لم أكذب
عليه»، فالحقيقة أني لا أعرفه، انزعج من اجابتي، فما كان الا ان اجاب بعصبية «لوين نودي جثتك.. لعد نرميها بالدرب؟» لم أتمالك نفسي من الضحك قائلا له
بسرعة وبسخرية «شنو الفرق.. يعني يهم الشاة أن تصلخ بعد ذبحها» فأجاب «عجايب.. زين.. زين» ثم سار في طريقه يكتب عناوين الباقين كيما ترسل جثثهم بعد
إعدامهم وحتى لا ترمى في الطريق، وقد حصل فعلا ان جيء بجثة احد المعدومين ملفوفة بكيس نايلون ورميت امام دار اشتبه بعنوانها كما علمت بعد حين. أنهى هذا
الشاب جولته علينا ثم دخل احدى الغرف.
أدرت وجهي إلى الحائط ورحت أفكر بما قاله هذا الشاب الذي لم أعطه عنواني، وتساءلت عن مصير جثتي، هل ترمى في الدرب. فمططت شفتي وأنا أقول «الجايبه
الله حياه الله». ونظرت في ساعتي لأعرف الوقت فإذا بزجاجتها منزوعة من مكانها، نظرت إلى الأرض فوجدت زجاجة الساعة بالقرب من قدمي، هممت ان ألتقطها،
ولكن جاءني هاتف بأن لا أفعل، فما الفائدة من الزجاجة، فالساعة ستؤخذ مني بعد إعدامي حتما ولا بأس أن تؤخذ الساعة من دون زجاجة، وتركت الزجاجة في مكانها
على الأرض، وتشاغلت عنها بموضوع آخر، ثم عدت الى التفكير بالزجاجة، ورحت في حيرة هل التقطها من الأرض أم أتركها في مكانها؟ وهممت ثم عدلت أيضا،
وهكذا بقيت في صراع بين إقدام وإحجام، مترددا بين الالتقاط، أو الترك، الى ان حسمت الأمر وبحركة سريعة التقطت زجاجة الساعة ووضعتها في جيبي وحللت
المشكلة.
بينما نحن وقوف ننتظر المصير، وبعد ان راح الحراس يجمعون الأوراق من الواقفين (المتهمين) اذا بطابور طويل من عمال المطاعم، يدخلون الصالون الكبير
يحملون «صواني» مرصوصا عليها اوان تحتوي على اصناف مختلفة من الاطعمة، يبلغ عددهم عشرة يسير الواحد وراء الآخر بنظام، توزعوا على الغرف الموجودة
في الصالة ومر بعضهم من امامي، كان يحمل اطباق الدجاج.. والقوزي والسمك والرز وانواع المرق والسلطات وكل ما لذ وطاب.))......
((تنبهت مذعوراً على صوت التلفون يرن بشدة، وللمرة الاولى اسمع رنين جرس التلفون منذ ان جيء بي الى هنا، ظل رنين التلفون مستمراً، ثم رفعت السماعة،
وسمعت صوتاً يقول: «هلو.. نعم سيدي.. نعم سيدي»، ثم اقفلت السماعة، وبعد لحظة اذا بصوت عال يسمعه الجميع، كل من في الدهليز ونزلاء الزنزانات يعلن عن
اسم شخص «فلان ابن فلان»، ونسمع اقداماً تتجه الى زنزانة الشخص المطلوب، ويستخرج منها ، ثم يعلن المنادي وبصوت عال ايضاً ومسموع عن اسم آخر «فلان
ابن فلان» وتتجه نحو زنزانته اقدام لاستخراجه هو الآخر، هكذا وعلى هذا المنوال نودي على سبعة او ثمانية اشخاص، ممن يحتلون الزنزانات، وحصل ضجيج جراء
فتح وقفل ابواب الزنزانات واقدام كثيرة تروح وتجيء سواء من الحراس او الاشخاص المطلوبين، وقد مر بعضهم من امام زنزانتي، فقد سمعت واحداً يقول «على
كيفك اخوي عوّرت ايدي»، ويبدو ان الحارس قد شد بقوة على ذراع الشخص المساق.. ثم ابتعدت الضجة، وسمعت صرير الباب الحديدي الكبير يفتح ثم يغلق، وكأن
الجميع قد خرج، ولم اعد اسمع شيئاً، نهضت واقفاً، وألصقت خدي على باب الزنزانة الحديدي، علّني اسمع شيئاً، فقد ران الصمت من جديد وبدأت الافكار تشتغل الى
اين ذهبوا بهؤلاء؟ هل افرج عنهم؟ هل طلع النهار؟ الظلام هنا حالك لا يسمح حتى برؤية عقارب الساعة، واسئلة اخرى اخذت تلح.
هل حوكموا؟
وبينما انا في هذه الافكار اذا بدوي الرصاص يمزق السكون ويرج المكان رجاً، زخات وراء زخات استمرت دقائق عدة، ثم اخذ يضعف ويتقطع الى ان سكت تماماً،
وحل سكون مخيف، واذا بصوت ينبعث من الدهليز يصيح بأعلى صوت «هذه وجبة من الخونة قد ذهبت الى مزبلة التاريخ»، ثم اعقبها بقهقهة عالية، وانشغل فكري
مع هذه الوجبة، منذ قليل كانوا جيراناً لي ويحتلون الزنزانات المجاورة، ها هم الآن جثث تفترش ارض الحديقة، لم اعرف احداً منهم، ورحت اتساءل: هل حوكموا.
ومتى جرت محاكمتهم وكيف؟ لقد نقلوا من الزنزانة الى ساحة الاعدام رأساً، لا شك ان الحكم قد صدر عليهم مسبقاً حتى قبل اعتقالهم، وانما جيء بهم الى هنا للتنفيذ
فقط، وما يعلن في الاعلام الحكومي هو كذب في كذب، فليس للمحكمة اي وجود، ورن جرس التلفون من جديد واخذ قلبي يضرب بعنف ـ ان رنينه نذير شؤم، انه
واسطة الموت، هو الذي يحمل اوامر الاعدامات، ان مصيرنا معلق في سماعة هذا التلفون، هل انا سأسمع اسمي مع وجبة جديدة ترسل الى الموت. رُفعت السماعة
وطاحت قلوبنا ـ نحن نزلاء الزنزانات ـ فالكل يتوقع ان يسمع اسمه، واجاب الصوت نفسه «نعم سيدي.. نعم سيدي» ثم يغلق السماعة، وتصيخ الاسماع. انها
لحظات قاتلة لا تحتمل، انها النطق بالاعدام، ونطق المنادي بصوته الجهوري الاسم الاول وفتحت زنزانته واحضر صاحبها.. كنت اعد الاسماء اسما وراء اسم، وكنت
اتوقع سماع اسمي، فإن اخطأه المنادي، او تخطاه، قلت في نفسي ان اسمي، سيجيء وراء هذا الاسم دون شك، ونادى على سبعة اسماء او ثمانية، كانت اسماع كل منا
متعلقة بالحرف الاول من الاسم، فمنه يعرف المعني والمطلوب تنفيذ الحكم فيه.. انها عملية مرهقة، تختلط فيها الحروف والاسماء وتضطرب المشاعر، فالكل يتوقع ان
يسمع اسمه، فإن تعداه المنادي الآن فسيعلنه بعد حين.
اقتيدت هذه الوجبة من زنزاناتها، كما اقتيدت الوجبة السابقة وخرجت من البوابة الكبيرة... وظلت اسماعنا مشدودة الى سماع دوي الرصاص، كما هو متوقع فقد
عرفت الحكاية او اللعبة: تلفون يدلي بأسماء من يراد اعدامهم ممن يحتلون هذه الزنزانات، ويقوم الحراس بعملية ايصالهم الى ساحة الاعدام حيث التنفيذ.. ولكن كم يا
ترى عددنا ـ نحن نزلاء هذه الزنزانات؟
لم يطل انتظارنا، فقد لعلع الرصاص مزمجرا من الرشاشات، وحصد اجسام هذه الوجبة الاخرى.. ثم ران السكون الذي قطعه صوت من الدهليز «هذه وجبة اخرى من
الخونة تذهب الى مزبلة التاريخ» اعقبتها قهقهة عالية.))
هذه مقتطفات من كتاب ( ليلة الهرير في قصر النهاية) آملا ان تستعي المحكمة احمد الحبوبي ليتحدث امامها عن ( الحاكم) طه الجزراوي).
مالك حسن
15/2/2006