مواقف ووجهات نظر فرنسية في الزوبعة الإسلامية الجديدة! [ 1 من 2 ]

كان من بين أهم المقالات التي قرأتها عام 2004 حول زوبعة الحجاب بفرنسا مقال لتركي الحمد في الشرق الأوسط بعنوان "مسلمون نعم.. ولكنهم فرنسيون." [عدد 19 يناير 2004].
هذا المقال، الذي أتمنى لو أعيد نشره في أكثر من مكان، يبتدأ بالقول:
" يبدو أننا، عربا ومسلمين، قد أدمنا القضايا حتى أننا لا نستطيع العيش بدون قضية. والغريب أننا نختار من القضايا ما ينفر الناس منا وينفرنا من الناس، ويبعدنا عن ويبعد العالم عنا في الغالب الأعم."
إن الإسلام السياسي وانتهازية وحسابات بعض الأنظمة في العالمين العربي والمسلم يجهدان النفس لالتقاط أية قضية لتمرير أجندتهم السياسية: من فلسطين بالأمس واليوم، وإلى أفغانستان ثم العراق، فالحجاب، واليوم رسوم فنان كنا جميعا نجهله ونجهل رسومه الكاريكاتورية لولا زوبعة الغوغائية العنفية، التي يقودها محور طهران ـ دمشق ـ والأصولية بزعامة القاعدة، دون أن ننسى حماس وحزب الله المرتبطين بالنظامين المذكورين. وقد أشار الدكتور عبد الخالق حسين لمثال المجلة الأسبوعية "شارلي إيبدو" التي زادت مبيعاتها خمسة أضعاف في يومين لنشر تلك الرسوم. إنه فضول المواطنين الفرنسيين والغربيين عموما لرؤية رسوم أدت لأعمال قتل وحرق للسفارات والكنائس وتهديد بالقتل ومطالبات بتعديل وتغيير مبادئ الدساتير العلمانية والقوانين القائمة عليها. ونشرت اليوم صحيفة الهيرالد تريبيون كاريكاتورا كبيرا يمثل مظاهرات مسلحة تحمل شعارات:" اقتلوا الملحدين"، "اقطعوا أيديهم"، "اقطعوا رؤوسهم"، "اقطعوا رؤوسهم وأيديهم"؛ وثمة متظاهر يقول لحامل كلاشنكوف:" انظر! ربما أحد رسامي الكاريكاتور سيعيد نشر هذه اللافتات لنظهر للعالم أشرارا"! وقبل ذلك كانت صحيفة [ لي باريسيين" الفرنسية قد نشرت يوم 3 الجاري كاريكاتورا يمثل داعية إسلاميا وجلادا يقطع الأيدي، والداعية المعمم يقول للجلاد:" سنكف عن قطع أيدي اللصوص، إذ سيكون لنا عمل كثير مع الرسامين!"
الرسوم إذن هي اليوم "القضية المصيرية الكبرى"، والتي تحولت لما يشبه الهدية الكبرى لأطراف المحور المذكور والجموع المتطرفة السائرة وراءها لاقتراف "كل ما هو غير عقلاني في السياسة والثقافة والخطاب"، على حد تعبير مقال تركي الحمد.
لقد نشر العديد من كتابنا الموضوعيين والشجعان، ورغم حملات التشهير والقذف الوقحة والسفيهة، مقالات تحليلية جيدة للظاهرة ـ الزوبعة، ومغزاها ونوايا وأهداف المحرضين وحسابات كل طرف.
أما في فرنسا، فقد أعادت صحف عديدة نشر بعض من تلك الرسوم مع تعليقات، وانفردت "فرانس سوار" ومجلة "شارلي إيبدو"الأسبوعية بنشر جميعها خلال الأسبوع الماضي. وقد حاولت الاتحادات الإسلامية وجامع باريس منع النشر عن طريق القضاء فرفض القضاء دعواهم، ولكن المجلس الأعلى للمسلمين الفرنسيين رفع دعاوى جديدة على الصحف المذكورة. كما أن رئيس منظمة "الحركة ضد العنصرية والصداقة بين الشعوب" وهو جزائري الأصل، مولود علوني، رفع من جانبه دعوى على "فرانس سوار" بتهمة الترويج للعنصرية، وهو قرار أدى لانقسام الرأي في حركته، لاسيما وإن منبر الصحيفة كان مفتوحا له دوما لنشر بياناته ضد التمييز العنصري. ومع أن أية مظاهرات لم تقم خلال الأيام الماضية، فإن الاتحاد الإسلامي لضاحية "سان سان ديني" نظم بعد ظهر 11 شباط مظاهرة سلمية في باريس ضمت ثلاثة آلاف شخص فقط، ولم يجرؤ أحد على اقتراف عمل عنيف خوفا من إجراءات القضاء وحتى الطرد. وللتعريف فإن هذه الضاحية كانت البؤرة الأولى لاضطرابات الشغب والعنف في نوفمبر الماضي، وفي هذه الضاحية يعمل مسجد بلال الذي يسيطر عليه تنظيم "تبليغ" المتطرف، والمسؤول عن تجنيد العشرات من إرهابيي الجماعة الإسلامية المسلحة. كما جرت منذ التسعينات هناك سلسلة أعمال عدوان في المدارس الثانوية المهنية وخصوصا ضد المدرسات الشابات. وخلال الشهرين الماضيين اعتدى طالب على مدرسة شابة بالطعن مرارا بالسكين، ولكن الطب أنقذ حياتها؛ وبعد ذلك جرى الاعتداء على مدرسة شابة حامل حيث حاول طالب خنقها في الصف. إن الاتحاد الإخواني العام الذي يهيمن على أكبر عدد من مساجد فرنسا وعددها 1500 مسجد والذي يعتبر القرضاوي مرشده، وإن منظمة تبليغ المتطرفة وأمثالهما، ستحاول رغم كل شئ تسميم الجو، وانتهاز الفرصة لصب الزيت على النار. وقد اعتبرت الصحف الفرنسية أن عودة مسجد باريس والمجلس الإسلامي الأعلى للقضاء تحت ضغط الاتحاد القرضاوي وبعد خفوت التوتر، هي بحد ذاتها صب للزيت وتأجيج.
إن شيراك ورئيس وزرائه اتخذا موقف المهادن ويتحدثان عن "الاستفزاز" وجرح المعتقدات؛ ولكن وزير الداخلية يعلن رفضه الصارم للعنف وإدانته لردود الفعل الهمجية، وهذا موقف عدد من النواب الشيراكيين ورئيس الوزراء السابق بالادور. ونعلم أن الرئيس بوش اتخذ في البداية موقفا مماثلا، ثم عاد للتنديد القوي بعمليات الحرق والاعتداء وطالب بدعم أوروبا لحماية أمنها. وانتهز بوتين الفرصة للتصريح باستعداده "للوساطة" بين المسلمين والغرب!!!
إن الحقيقة، هي أن الرئيس الفرنسي محرج ولكن موقفه الشديد الاعتدال، والأميل لرفض تشر الرسوم، [وهو نفسه موقف توني بلير]، لم يمنع عصابات حزب الله وأحمدي نجاد من الاعتداء المتكرر على السفارات الفرنسية، مثلما لم يشفع لفرنسا مقاومتها لحرب تحرير العراق، حيث وجد الإسلاميون في العالم العربي وشبكات القاعدة في قضية الحجاب حجتهم الجديدة للتأليب ضد فرنسا.
أما الحزب الشيوعي فلا أعرف عن ردود فعله، ولكن قادة تيارات الحزب الاشتراكي أعلنوا رفضا صارما لردود الفعل الهمجية والمطالبات بالحد من حرية النشر والصحافة، وزعيم الحزب اليميني لوبين استسخف الرسوم أصلا وأكد أن المشكلة الحقيقية في فرنسا هي مشكلة الهجرة بلا حدود والتي تهدد الاقتصاد الفرنسي والمجتمع كما قال. وقد وقف العديد من رجال الدين المسيحيين واليهود ضد نشر الرسوم، ويقال إن الكنيسة والحاخامية تريدان استغلال المناسبة لإعادة فتح ملف العلمانية بالمطالبة بوضع قوانين تحظر المس بأية عقيدة دينية ونقدها، تماما كما طالب السيد عمرو موسى والمؤتمر الإسلامي من كوفي عنان. وكانت الكنيسة والفاتيكان قد احتجا قبل سنوات على فيلم عن المسيح اعتبراه مسيئا له وللمسيحية، ووقفت الاحتجاجات عن هذا الحد بلا مظاهرات وحرق. وفي مناسبات أخرى صدرت احتجاجات أخرى في فرنسا على رسوم وأفلام اعتبرت مسيئة للسيد المسيح.
إن المعلوم أن العلمانية قامت أساسا ضد تسلط رجال الدين ومؤسساتهم، وأعطت لكل من الدين والدولة مجالا مستقلا به دون مزج كما كان الأمر في القرون الوسطى من طغيان الكنيسة واستبدادها المطلق والدموي أحيانا.
جواب فرانس سوار:
لقد ردت فرانس سوار في افتتاحية بعنوان "محاكمة" في عدد 7 شباط الجاري بالتذكير بأن "الإلحاد نفسه ليس جريمة في بلد فولتير"؛ ومعروف أن حرية المعتقد والضمير تعني حرية التدين واحترام الدين ولكنها في الوقت نفسه مع حرية نقد الدين ونشر الفلسفات اللأدرية والإلحادية. وإذا كان مقام الأنبياء ساميا فإن مقام الله أكبر، ومع ذلك هناك ملحدون وفلاسفة يبشرون بالإلحاد؛ فهل يجب حجزهم ومنعهم من حرية التعبير والنشر وحرق كتبهم؟؟
تقول الصحيفة إنه خلال الأربعين سنة الماضية تحولت مسألة التأكيد على وجود الخلافات بين الأفراد وكأنها تعطي حقوقا متميزة مختلفة للمتخالفين. الصحيفة تقصد المبالغة خلال العهد الاشتراكي وبعده في التأكيد على الخصوصيات المتعددة لدرجة أدت لتهميش مبدأ المواطنة وخضوع الجميع للقانون ومبادئ الجمهورية. نعم لحرية الدين وتنوع الثقافة، وحرية التعبير والضمير. ذلكم هو من صلب الديمقراطية العلمانية. ولكن هل هذا يجيز للفرنسيين المسلمين أن تكون لهم معاملة خاصة وأن يستثنوا أنفسهم وممارساتهم من مبادئ الجمهورية العلمانية بحجة الهوية والشريعة الإسلامية؟ وكيف يجوز القبول في الدول الديمقراطية بأن تجري في أراضيها عمليات "غسل العار"، وإطلاق حرية تعدد الزوجات، وتحليل ضرب الزوجة، والمطالبة بقبول الحجاب في المدارس العامة؟ وهل احترام الخصوصية يبيح استغلال المساجد لإطلاق دعوات العنف والأصولية التي ترفض الاندماج في المجتمعات التي يعيش فيها المسلمون والانكفاء في "غيتو" ينقطعون فيه عن المجتمع ويجعلهم يكرهون الآخر أو يعتبرونه عدوا، مما ينفر الآخر منهم. وإذا كان من حق الحكومات العربية والمسلمين المطالبة بالتراجع عن قرار رفض الرموز الدينية في مدارس الدولة، فهل من حق الفرنسيين وحكوماتهم مطالبة دول كإيران والسعودية وباكستان والسودان بالتراجع عن فرض الحجاب عندهم حتى على الطفلات؟ أم هو الكيل بمكيالين؟! تقول فرانس سوار:
" إن الإيمان يعود للمجال الشخصي، ولا يمكن لدين ما فرض تعاليمه ووصاياه على الجميع. وهذا هو الذي يجعلنا نعيش سوية. أما اتهام نشر الرسوم بمعاداة كل العرب والمسلمين، فإن ذلك نظرة بوليسية في التاريخ"؛ وربما تقصد محاكم التفتيش في أوروبا. وتوجه الصحيفة خطابها لشيراك بقولها:
"إن تراجعنا عن مبادئنا لا يجعلنا أكثر احتراما في العالم العربي، فالضعفاء هم عادة موضع استخفاف." وبهذا الصدد يجري الاستشهاد بقول تشرشل في الموقف من هتلر قبل الحرب الدولية الثانية إذ قال:
"إذا رضينا بعار التنازلات باسم منع الحرب فسوف نجلب الحرب والعار معا."
أما رئيس منظمة "معاداة العنصرية "دومينك سوبة" الأفريقي الأصل، فأدلى بتصريح للصحيفة يؤيد موقفها، وقال إنه كعدو للعنصرية تقدمي وضد الظلامية. والمؤرخ مارك نوبل يقول إنه مع نشر الرسوم بشرط أنه كان يجب أن ينشر معها إيضاح بكونها ليست ضد الني الإسلام ونبيه بل ضد من يستغلون اسميهما لتنفيذ عمليات الإرهاب. وقد أيد وجود طابع المناورة والتحريض والتوقيت المبرمج بدليل أن الضجة بدأت بعد أكثر من أربعة شهور على نشر الصحيفة الدانيماركية.
إن المحتجين الصاخبين باسم وجود حملة عداء ضد الإسلام يتناسون عن عمد أن ملايين غفيرة من المسلمين تعيش قي أوروبا وتحمل جنسيات بلدانها وتتمتع بكل حرية للدين وممارسته بلا شروط ولا قيد سوى عدم بث الكراهية باسم الدين. كما تقدم لهم جميع أنواع المساعدات السخية والخدمات المجانية، ولو كان ما يدعونه حقيقة فلماذا هاجروا ويهاجرون بموجات جديدة للغرب ولم يذهبوا لباكستان أو السعودية أو إيران أو السودان، حيث السلطة لأحكام الشريعة؟؟ وهل يريدون حقوقا بدون واجبات تسري على كل المواطنين وبلا تمييز؟؟
[ القسم الثاني والأخير يخص جواب مجلة شارلي إيبدو ومقالا للصحيفة اليمينية المعتدلة وواسعة الانتشار "الفيجارو".]

عزيز الحاج
11 شباط ـ فبراير 2006