شاهد عيان ـ لقاء مع المناضلة روناك رفيق (أم سرود) ـ يوم شباط الاسود

شاهد عيان
لقاء مع المناضلة روناك رفيق (أم سرود)
- يوم شباط الاسود-

رغم عذاب السنين وقسوتها، رغم آلاف الذكريات المؤلمة. تنبهر بعفويتها وروحها الصافية تحسها قريبة منك، ذو صدر حنون لا ينافسها سوى حنو امك. صوتها الشجي، والتي بدأت اسمعه متقطعاً منذ اصابتها بصدمة لدى رؤيتها لشهداء الجسر وهم يعرضون على شاشات التلفاز، وهي في تلك الغربة اللعينة التي اكلت 30 عاماً من سني عمرها. يومها نقلها الجيران الى المستشفى وضلت عيونها تحدثهم عن المأساة التي رأتها وخانها صوتها التي تعود ان لا ينطق سوى بالحقيقة والدفاع عنها. حتى تكون لديها جيش من الاعداء، من الانتهازيين والمتزلفين والمتلونين، لسبب واحد انها تعرفهم كما لم يعرفوا انفسهم. وانها شاهد حي لمسيرتهم، وهناك الكثيرون ممن لا يحبون مثل هؤلاء الشهود.

كانت قد وعدتني ان تمنحني خلاصة ذكرياتها، وكنت وعدتها ان ازورها، ولكني دوماً لم يحالفني الحظ بزيارتها . ومرت السنين، فلم اجد بداً سوى ان اتصل بها تلفونياً لتقص لي ذكرياتها عن ذلك اليوم المشؤوم من شباط 1963.

قالت لقد فرحت بسماع صوتك رغم اني لا اعرف سر" الغم" الذي اشعر به اليوم؟ فقلت لها الا تعرفين ما هو اليوم؟ قالت: لا ما تقصدين؟ قلت لها انه 8 من شباط!!! فأجابتني، الان عرفت السبب الحقيقي للشعور الذي احسست به منذ الصباح.
اعلمتها بسبب اتصالي، فلم اجد منها سوى الترحيب. وبدأت تسرد ذكرياتها ، كأنها تعود الى تلك الايام لتعيشها مجدداً. شعرت بوخزة الضمير لاني كنت السبب في أثارة الاشجان والانفعالات لديها وذلك ربما يؤثر على صحتها. ولكني اقنعت نفسي ربما ذلك سيخفف من بعض ما تحمله من احزان في قلبها والتي كبتتها عبر كل هذه السنين، وخاصة وهي تعلم انها ستتقاسمها مع الاخرين. وبدأت:

اتذكر ذلك اليوم جيداً كان يوم جمعة، والشهر رمضان تعودت ان اصحوا متأخرة بعض الشئ ، لانه يوم عطلة، فتحت جهاز الراديو كعادتي كانت الساعة بعد الثامنة ربما بقليل، سمعت ذلك الصوت المرعب وهو يقرأ البيان الاول "للثورة" اصبت بالصدمة، رغم انه كانت هناك اخبار تنبأ عن ذلك. كنت لا اصدق ما اسمع، تعلن عن اسماء المعتقلين. ثم تنتهي بالبيان رقم 13 الذي استباح الدم العراقي بدون محاكمة ،" اقتلوا الشيوعيين حيثما وجدتموهم" زدت رعباً على زوجي وعائلتي ، وكل الاصدقاء والاحبة، كنا حينه نسكن في كمب سارة قرب معسكر الرشيد، في منطقة بغداد الجديدة. طلبت من زوجي الاختباء ولكنه رفض ، كان جل خوفي على وحيدي الذي قد كان تجاوز عمره السنة باشهر قليلة. سقط المطر في تلك الليلة كانت السماء تبكي ابناء العراق. انتشر " الحرس القومي" في كل احياء العاصمة بينما كانت المقاومة تشتد، اعلنت عطلة رسمية ومنع متواصل للتجول.

توسعت اعمال المقاومة لتشمل مناطق كثيرة في بغداد وخاصة في شارع الكفاح وباب الشيخ وحي الاكراد والثورة ومناطق من الكاظمية ، حتى قيل ان النساء من سكنة تلك المناطق خرجت وسلاحها مغارف الطبخ " الجفجير" دفاعاً عن الثورة.

وبعد ايام عرض الزعيم ورفاقه على شاشة التلفاز وهم ملطخين بدمائهم الزكية. وكان قمة النذالة ما قام به جندي وضيع عندما شد شعر الزعيم وبصق في وجهه ، مستخفاً بمشاعر الملايين من محبيه.

اعلن عن بدأ الدوام يوم الاثنين، ترددت في الذهاب الى المدرسة حيث اعمل كمعلمة. حاول زوجي ان يمنعني من الخروج ، ولكن امام اصراري وافق اخيراً. وصلت المدرسة متأخرة كغير عادتي. كانت مدرستي " فردوس الثانية" تقع في احدى الاحياء الشعبية في شارع الكفاح "القشل" كان الطريق ما زالت ملطخاً بدماء المقاومين حيث عرفت تلك المناطق بمقاومتها الباسلة للردة، وكان زجاج شبابيك المدرسة محطماً.

وبتحريض من بعض المدرسات أستقبلتني بعض الطالبات بهتاف " وحدة وحدة عربية فالتسقط الشيوعية" ؟؟؟!!!.
كنا حينها نحن ثلاث معلمات نحسب على القوى الوطنية ، انا انحدر من مدينة كركوك الباسلة والاخوات صبيحة فرحان من اهالي الكاظمية والماس عبد القادر من أهالي أربيل. اصبحت حياتنا في خطر وخاصة وان مديرة المدرسة صبيحة اسماعيل رمضان كان خالها هوعلي جودت أيوبي من رموز النظام الملكي، تكن كرهاً شديداً لثورة تموز، مما سهل مهمة المعلمات الاخريات من البعثيات والقوميات والاخوات المسلمات العاملات في المدرسة لتضييق الخناق علينا. ولكن بعد وقت تغير موقف المديرة ليس منا وانما لدى اكتشافها الاعيب البعثيات والقوميات اصبحت اشد كرهاً لهن.
في اليوم الثاني من دوامنا كنت بصحبة الاخت الماس لدى مغادرتنا المدرسة ، كان مركز شرطة "بني سعيد" في نهاية الزقاق المؤدي الى الشارع العام. وحينها رأيت سيارة جيب توقفت وانزل منها 3 شباب من الكورد الفيلية ، وكانوا ثلاثتهم من العاملين الفقراء في منطقة الشورجة القريبة. اوقفوا الى الحائط بجوار المخفر ووجهت اليهم البنادق الرشاشة . وفقدت الوعي . عندما صحوت وجدت نفسي في صيدلية " يحى" القريبة كان صاحب الصيدلية قد سحبني وصديقتي الى داخل صيدليته، وافاقني بالنشادر. سألت عما حدث؟ لم اسمع الرد. ثم بادرت صديقتي وقالت الحمد لله الطلقات رميت في الهواء!!!. ولكن عادت بعد شهر لتوكد لي استشهادهم.

لم أشأ ان لا استمر في العمل ، وخاصة واصبح راتبي المصدر الوحيد لمعيشة العائلة بعد اضطرار زوجي الى الاختباء. كنت اترك ابني عند والدتي خوفاً عليه. وكنت ازوره كل يومً ، كانت امي قد اعتادت ان تعطيني قدح من عصير البرتقال عند زياراتي تلك ، ولم اكتشف سوى بعد 17 يوماً انه الغذاء الوحيد الذي دخل معدتي منذ ذلك اليوم الاسود، ولا اعرف ما الذي ابقاني على قيد الحياة.
واصلت الدوام في المدرسة رغم الضروف السيئة. وكنت استغرب اسباب عدم اعتقالي. وهو لغز لم اعرفه حتى اليوم. كانت تصلني الاخبار عبر اهالي الطالبات ، المتعاطفات معي. كانت أم احدى طالباتي واسمها نهاد، تخبرني كل يوم عن عدد المناضلين الذي تتم تصفيتهنم في النادي الاولمبي حيث كان زوجها يعمل. حيث ذكرت انه قد جمع ما يقارب من 500 شخص في النادي ثم بدأ عليهم قصف الطائرات ليتم ابادتهم جميعاً. واستخدم النادي المذكور كمقر لتصفية المئات من خيرة ابناء العراق على يد قطعان الحرس القومي. وافضع ما روت ان زوجها عندما يعود من العمل كان يشعر بالغثيان، ويزداد هزالا وشحوباً يوماً بعد يوم . وقد اخبرها انه يضطر كل يوم الى تفريغ حاوية (تنكة) من مخ البشري.

اوقفتها من مواصلة سرد ذكرياتها على امل ان اعود اليها لتخبرني وبالاسماء عن المناضلات التي دخلوا معتقلات البعثية ومن كانوا المسؤولين عن تعذيبهن.

د. منيرة أميد
8 شباط 2006

المصدر: صوت العراق، 8/2/2006