فوز حماس في صالح العلمانية والديمقراطية!

لست مازحاً ولا متهكماً بالعنوان أعلاه، بل هو الحقيقة بعينها. ولا أعني أن حماس حزب علماني، بل إني عارف تمام المعرفة أن حماس حزب إسلاموي حد النخاع، وكأي حزب إسلاموي، دستوره القرآن وشعاره (الإسلام هو الحل) ومن برنامجه تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ويعتبر العلمانيين كفرة ضد الدين يجب قتلهم أو يعلنوا التوبة ويعودوا إلى الإسلام رغم أن العلمانيين ليسوا ضد الأديان.

انتصار الديمقراطية
في البدء، أود أن أهنئ الشعب الفلسطيني المناضل على نجاحه في خوض الانتخابات بمنتهى الحرية والهدوء وفي جو مفعم بالأمن. فقد عبر الشعب الفلسطيني عن رأيه بإرادته الحرة، وعلى العالم احترام هذه الإرادة. إذ تفيد الأنباء أن "حركة حماس حققت فوزا كبيرا في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ووفقا للنتائج الأولية ( والنهائية) حصلت حماس على 76 مقعدا في البرلمان الفلسطيني مقابل 43 لفتح، الأمر الذي وفر لحماس الأغلبية في المجلس النيابي الذي تبلغ عدد مقاعده 132 مقعدا. وقد بلغ معدل الاقبال على مراكز الاقتراع 77 بالمئة." وهذا بحد ذاته نصر للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ودليل على أن الديمقراطية بدأت تثبت أقدامها والناس صاروا يؤمنون بصناديق الاقتراع واحترام نتائجها بدلاً من الرصاص في التعبير عن إرادتهم وتحقيق أهدافهم السياسية. كما وأتمنى على العرب أن لا يطعنوا بشرعية هذه الانتخابات بحجة أنها جرت في ظل الاحتلال الإسرائيلي كما هو ديدنهم مع الانتخابات العراقية. فقد أثبت التاريخ أن الانتخابات في البلاد العربية في ظل الاحتلال تكون أكثر نزاهة وشرعية ومصداقية من تلك التي تجري في ظل الحكومات الوطنية الثورجية، صاحبة الفوز بنسبة 99.99% سيئة الصيت.

ولكن لماذا يعتبر فوز حماس انتصاراً للعلمانية؟
"A pessimist sees difficulty in every opportunity، an optimist sees the opportunity in every difficulty." Tim Berners-Lee The inventor of WWW
يقول مخترع شبكة الإنترنت العنكبوتية (www) تم برنرزلي: "المتشائم يرى الصعوبة في كل فرصة، والمتفائل يرى الفرصة في كل صعوبة ". أعتقد أن فوز حماس الذي يراه المتشائمون تسونامي سياسي وهزيمة للديمقراطية، أراه عكس ذلك، إنها الفرصة الذهبية لانتصار الديمقراطية في الشرق الأوسط وإلحاق الهزيمة بالأحزاب الإسلامية المتطرفة.

إن أهم وسيلة لكشف الأحزاب الإسلامية في البلاد العربية وغيرها على حقيقتها هو أن تتسلم هذه الأحزاب مقاليد الحكم من أجل وضعها أمام الأمر الواقع وجهاً لوجه ولتعرف كما وصفهم الدكتور شاكر النابلسي بالحكمة الشعبية "أن الذي يده في النار، ليس كمن يده في الماء." هذه فرصة لإدخال حماس في النار الفلسطينية ليحسوا بالحرارة وليواجهوا الشعب فيما إذا كانوا فعلاً قادرين على حل مشاكله. ففي صباح يوم 26/1/2006 وأنا أستمع إلى تقرير من مراسل بي بي سي، وهو يسأل إحدى السيدات الناخبات في قطاع غزة، لمن أعطت صوتها؟ فأجابت (لحماس). ولما سألها (لماذا حماس وليس فتح)، أجابت السيدة بإنكليزية جيدة وباندفاع وحماس وثقة، أنه طالما حركة حماس هي حركة إسلامية، لذا فلديها القدرة والحل الصحيح، ليس للقضية الفلسطينية فحسب، بل ولجميع مشاكل العالم التي تعاني منها شعوب الأرض!! فإذا تحقق الحكم الإسلامي فإنه لقادر على حل جميع مشاكل العالم!! هذه الفكرة مغروسة ليس في عقل تلك السيدة الفلسطينية فقط، بل وفي عقول جميع الذين يؤيدون الأحزاب الإسلامية في العالمين، العربي والإسلامي. كما ويجب أن نعرف أنه ليس بالإمكان إقناع الناس خلاف ذلك إلا بالطريقة العملية وذلك بتسلم الأحزاب الإسلامية للحكم لنرى كيف يحلون مشاكل العالم. فاناس لا يتعظون بأخطاء الآخرين، بل يفضلون تجاربهم الخاصة بهم. ولا شك فإن المشاكل التي تعاني منها الشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني بخاصة، ليست هينة وليس بإمكان الأحزاب الإسلامية حلها بعصا سحرية كما يدعون، بل ونتيجة لديماغوجيتها واعتمادها على المتافيزقيا والحلول الطوباوية، فإنها ليست محكومة بالفشل في حل هذه المشاكل فحسب، بل وستفاقمها، وأفضل مثال هو السودان وإيران وما آلت إليه أفغانستان في عهد طالبان. وبذلك سوف يتأكد الناخبون الفلسطينيون أن الشعارات التي رفعتها (حركة حماس) والتي اجتذبت إليها الملايين، ما هي إلا شعارات ديماغوجية وعاطفية وخيالية غير قابلة للتطبيق والتنفيذ على أرض الواقع. لذلك أعتبر فوز حماس انتصار للعلمانية والديمقراطية على حد سواء لأن حماس ستفشل في هذا الامتحان القاسي ما لم تتخلى عن شعاراتها الخيالية وتقبل بسياسة الأمر الواقع وهو في أغلب الأحوال ما نتوقعه، وإذا حصل فهذا يعني أن حركة حماس ستتحول إلى العلمانية الديمقراطية أو تختفي بعد سنوات.

إن فوز حماس كان نتيجة حتمية لمنطق التاريخ. كل شيء يؤدي إلى شيء آخر، والخطأ يصحح نفسه تلقائياً عن طريق مبدأ الإختيار الطبيعي والبقاء للأصلح ولكن بثمن باهظ يدفعه الناس من أرواحهم وأموالهم. إن شعبية الإسلامويين ناتجة عن فساد أحزاب التيار القومي العروبي الذين بقوا في الحكم لمدة طويلة. وفساد هؤلاء ناتج عن غياب الديمقراطية والنقد. فكما يقول برتراند راسل " السلطة تُفسد، والسلطة المطلقة تُفسد إفساداً مطلقاً". وفتح تنظيم ثوري عروبي وعلماني بقي في السلطة مدة طويلة أصابه الفساد إلى أن تعفن. ونظراً لبقائه في حكم الضفة والقطاع لفترة طويلة دون أن يكون قادراً على حل المعضلة الفلسطينية، إضافة إلى استشراء الفساد في مفاصل هذا الحكم بشكل يزكم الأنوف أسوة بالحكومات العربية العلمانية الأخرى، لذا توجهت الشعوب العربية إلى الأحزاب الإسلامية التي ملأت الدنيا خطباً وصخباً ليل نهار تسب الفساد والفاسدين وتوعد الجماهير بأنها سوف تملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً من قبل العلمانيين، لذلك وضعت الناس كل بيضهم في سلة الأحزاب الإسلامية ولسان حالهم يقول، لننتخب الإسلاميين ونجرب حظنا وسوف لن نخسر غير حكوماتنا فاسدة. لذا فالمرحلة هي مرحلة الإسلامويين ويجب أن يأخذ هؤلاء دورهم، وكأصحاب آيديولوجية شمولية، فلا بد من أنهم سيفشلون كما فشلت الآيديولوجيات الأخرى، القومية والشيوعية من قبل، ولا بد أن يأتي بعد هؤلاء دور العلمانيين الديمقراطيين والليبراليين. لذا، ففي انتصار الإسلاميين تعجيل لقدوم العلمانيين.
قلت في مناسبة سابقة أن العقل الجمعي للشعب دائماً على حق حتى وإن بدا لنا هذا "الحق" خطأًً. إذ يجب أن نعرف مسبقاً أنه ليست هناك حقيقة مطلقة وأن الحقيقة نسبية وكما يصفها الوردي أشبه بالهرم، لها عدة وجوه، ونحن نرى وجهاً واحداً فقط من الهرم ولا يعني أن ليس للهرم وجوه أخرى، فهناك غيرنا واقف أمام الوجه الآخر لهرم الحقيقة وهو أيضاً يعتقد أن لا يوجد وجه آخر غير الذي يراه هو. فمن حق الشعب أن يختار الحزب الذي يعتقد به وفيه خلاصه، وإذا كان على خطأ فمن حق الشعب أن يخطأ، وإذا كان فعلاً على خطأ فهو مستعد لتحمل نتائج أخطائه ودفع الفاتورة. يجب أن لا ننسى أن هتلر جاء عن طريق الانتخابات الديمقراطية، وإذا كان الشعب الألماني على أخطأ فقد دفع الثمن باهظاً مع الشعوب الأخرى التي تعرضت لعواقب هذا الخطأ. وهذه هي الطريقة الوحيدة في هذه المرحلة التاريخية من التطور الاجتماعي التي تتعلم بها الشعوب والأحزاب لعبة الديمقراطية ويحصل التقدم، أي عن طريق التجربة والخطأ trial and error.

خسارة فتح فائدة لها
كذلك هناك فائدة كبرى أخرى من فوز حماس، ألا وهو أن تعيد منظمة فتح النظر في سياساتها وقياداتها وتتعلم الدروس والعبر من إخفاقاتها وتصلح ذاتها. فالشعب الفلسطيني ينظر إلى إدارة فتح طيلة هذه المدة أنها إدارة فاسدة نتيجة لغياب الديمقراطية وغياب النقد وحرية التعبير لفضح الفاسدين كما أسلفنا. والآن شاءت الديمقراطية أن تضعهم في المعارضة وتضع حماس، المعارضة بالأمس، في موقع السلطة والمسئولية اليوم، وكل جانب يتعلم الدرس جيداً. وبهذه الطريقة ولعلها الوحيدة، التي يتعلم الشعب من خلالها لعبة الديمقراطية، وبهذه الطريقة أيضاً، تتعلم فتح العلمانية، دروس الديمقراطية وكيف تتخلص من الغرور والفساد وأن الشعب الذي انتخبهم بالأمس هو نفسه الذي رفضهم اليوم وكذلك يمكن أن يرفض حماس غداً إذا فشلت هذه في تحقيق ما وعدت به.
وحسناً فعل قادة فتح برفضهم المشاركة في تشكيل الحكومة مع حماس. لأنه من المفيد أن تتحمل حماس المسئولية لوحدها طالما فازت بأغلبية المقاعد في البرلمان (76 من 132)، وبذلك ستجد نفسها أمام الأمر الواقع لتتحمل وحدها نتائج وعواقب قراراتها. كما وإن قواعد اللعبة الديمقراطية تحتم وجود معارضة في البرلمان لمراقبة أعمال السلطة ومحاسبتها على أخطائها، وبذلك يمكن فضح الأخطاء ومحاسبة المسئولين عنها. كذلك يمكن لحركة فتح أن تستغل هذه الفرصة وهي في المعارضة فتبدأ حملتها الانتخابية من الآن وإصلاح نفسها لخوض الانتخابات القادمة بعد أربع سنوات.

حماس أمام امتحان
تعتبر حركة حماس منظمة إرهابية من قبل الدول الأوربية والولايات المتحدة وإسرائيل وذلك لتبنيها سياسة العنف الثوري وإلغاء إسرائيل من الوجود. ولكنها وصلت إلى الحكم عن طريق إرادة الشعب من خلال صناديق الاقتراع. وشعارات حماس لا تتناسب مع عالم اليوم المتحضر والذي يخوض حرباً ضروساً على الإرهاب. كما ويسعى العالم، وخاصة أوربا وأمريكا، إلى مساعدة الشعب الفلسطيني في حل صراعه مع إسرائيل بالطرق السلمية وإقامة دولته المستقلة لتعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل بسلام. وقد أشاد زعماء العالم بمن فيهم الرئيس جورج بوش بالانتخابات الفلسطينية ونجاح الديمقراطية. ولكن في نفس الوقت ناشدوا حماس أن تعيد النظر في شعاراتها وأن تدين العنف وتتخلى عنه واعتماد العمل السياسي السلمي في حل القضية الفلسطينية وإلا لا يمكن التعامل معها وسيدفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من جراء ذلك.
ويبدو أن الجيل الجديد من قادة حماس أدركوا هذه الحقيقة، أن الشعارات الديماغوجية لن تجلب على الشعب الفلسطيني سوى الكوارث. لذلك أطلقوا تصريحات واعدة، القصد منها الخروج من هذا المأزق مع الحفاظ على ماء الوجه. فقالوا نحن في هدنة مع إسرائيل لمدة عشر سنوات من الآن. وهذا يعني أنهم يعرفون جيداً أنه خلال العشر سنوات القادمة ستصبح هذه الشعارات بالية وفي خبر كان.
كذلك بدأ بعض المسئولين في حماس يهيئون الجو للتراجع عن شعاراتهم من الآن من أجل الانخراط في العمل السياسي السلمي. لذا فوضع حماس في الحكم وموقع المسئولية هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها فطام هذه الحركة من شعاراتها الخيالية وتخليها عن العنف وتبنيها الديمقراطية وسياسة الأمر الواقع، وليس فقط تبني الديمقراطية للوصول إلى السلطة ثم التنكر لها.

د. عبد الخالق حسين
27/1/2006