الانتخابات بين النتائج البعيدة والأهداف... بين الأسلوب والممارسة


تتواصل الشكاوى والاحتجاجات على وقائع الضغوط والتزوير خلال الحملة الانتخابية والتصويت، وكذلك على الإعلان المتسرع لنتائجها. والواقع أنه لا يمكن تصديق دقة كل الشكاوى ولا تكذيبها جملة وتفصيلا باعتبار أن جميع أصحابها مندفعون بمرارة عدم نجاحهم المطلوب. ولما لم يكن للانتخابات العراقية مجلس أو هيئة مختصة من القضاء لبحث الشكاوى وفرز الصحيح من المفتعل والمبالغ فيها، ولما كان غريبا إيكال الشكاوى لهيئة وضعت في قفص الاتهام كالمفوضية العليا، فإن الأسلوب الصحيح الوحيد لمعالجة المشكلة هو تشكيل لجنة دولية ـ عراقية موسعة تتصرف بحياد، وبعيدا عن الضغوط والمظاهرات أو عن دعوات من البعض توحي بالتهديد للتمرد والعصيان! ـ وهو ما فهمناه من مواقف بعض الأطراف التي تقول إنها تمثل السنة. فلا تدخل مليشيات يحرم وجودها الدستوران المؤقت والدائم، ولا التلويح بحرب طائفية. وفي حالة تشكيل لجنة تحقيق دولية ـ عراقية محايدة، فإن نتائج تحقيقها يجب أن يحترمها الجميع بروح رياضية وليس بالتشنج والانفعال والتهديد. أما عن بعض الأساليب والممارسات الصارخة والظاهرة للعيان، فإنها كانت خطيرة، ولا يمكن أبدا وقوع جزء صغير منها في دولة ديمقراطية غربية، وإن لم يكن مستبعدا حدوث بعض الخروق الانتخابية الثانوية، ولكن في حالات نادرة، وحينئذ تحال الشكوى للمحكمة المدنية العليا. إننا إذ نذكر هذه الملاحظات، فلكي ننتقل لمعالجة أصل موضوع الانتخابات وعلاقتها بالديمقراطية.
نحن نعرف أن الانتخابات الحرة هي مستلزم أساسي للنظام الديمقراطي، أو أسلوب في الممارسة السياسية، ولكن هدف الممارسة يجب أن يستهدف السير المتدرج والحثيث نحو قيام الحكم الديمقراطي المدني، المؤسس على شرعة حقوق الإنسان وفصل الدين عن الدولة. أما إذا كانت الانتخابات وسيلة لتسلط التخلف الاجتماعي، والطائفية، وهضم حقوق المرأة، واضطهاد القوميات والأقليات، من عرقية ودينية، وقمع الحريات الشخصية، فإنها لن تكون في هذه الحالة لصالح الديمقراطية على المدى البعيد. وقد رحبنا عاليا بالانتخابات الأولى لأنها كانت أول ممارسة لأسلوب الانتخابات، ولأنها ردت في حينه بقوة على التهديد الإرهابي. وكان المطلوب تواصل الخطوات الديمقراطية على أساس الدستور المؤقت. ولكن المؤلم هو التراجع بعدئذ خطوات للوراء. أي بدلا من أن تكون كل خطوة قطعا لمسافة في الطريق الصحيح، أعادوا العراق للوراء بعد التراجع عن مبادئ الدستور المؤقت وعودة القرار 137 الملغي الخاص بالمرأة والأحوال الشخصية. وأظهرت الحكومة الحالية فشلها في تحقيق الوعود السابقة، لكي تتدهور الأوضاع بينما الإرهاب مستمر، ولكي يتسع التدخل الإيراني، والاستبداد الديني في جنوب العراق ومعظم دوائر الدولة. أجل، لا يمكن فصل الانتخابات عن الأهداف والغايات، فنرحب بمجرد وقوع الانتخابات وبمشاركة أوسع القوى والأطراف السياسية فيها هذه المرة، ولكن النتائج تثير المخاوف المشروعة. ومن هنا كان لابد من إدانة ممارسات العنف والتضليل التي مورست، وكشف الخروق والانتهاكات، ونقد الحملات الدعائية التي رافقتها، ولا سيما دور رجال الدين و أئمة المساجد من المذهبين، والفضائية العراقية ذات النفس الطائفي الصريح. وكمثقفين في الخارج، نعلم أن مقالاتنا لا تغير من سير الأمور وسياسات الأحزاب والسلطة، ولكننا ملزمون بالتعبير الواضح عن مواقفنا وآرائنا خدمة لما نعتبره الحقيقة ومن منطلق المصلحة الوطنية.
لقد قال لي صديق عزيز منذ حين إن الانتخابات في مثل الظروف والأوضاع العراقية من بعد سقوط الفاشية، كانت سابقة لأوانها، جراء تخلف المجتمع، والتكالب الإرهابي، وتسلط رجال الدين وأحزابه، وانتشار الطائفية بالمذهبين؛ وبمعنى آخر في ظروف الخراب الفكري والاجتماعي والسياسي الموروث من العهد السابق، والذي زادت أكثرية النخب السياسية والدينية والثقافية من دائرة خرابه، بدلا من الأداء الموضوعي، والحكيم، والصبور للأخذ بالجماهير للأمام خطوة فخطوة، ومعالجة القروح المتفجرة واحدة بعد أخرى بروح الوطنية العراقية والديمقراطية. لقد أجبت الصديق بأن شطرا كبيرا من المسؤولية يقع على ذلك الجدول الزمني المتعسف، الذي فرضته ثلاثة أنواع من الضغوط. أما الضغوط الأقوى فجاءت من المرجعية والأحزاب الشيعية التي طالبت بإجراء الانتخابات في أواخر2003 أو أوائل عام 2004.
أما الطرف الثاني في الضغوط فكانت بعثة الإبراهيمي ومساعديه، وجامعة السيد عمرو موسى التي شككت أصلا بكل العملية السياسية، ووقفت موقفا سلبيا حتى بعد تشكيل مجلس الحكم. أما الطرف الثالث فكانت الإدارة الأمريكية التي أرادت تقليص زمن المراحل الانتقالية في مسعى لتبرير شرعية حرب كانت شرعية تماما لأنها حررت شعب الخمسة والعشرين مليونا من نظام دموي، اقترف جرائم كبرى بحق العراق والشعب العراقي وقواه الوطنية ومراجعه الدينية. وقد استمر التصلب الأمريكي لفرض تنفيذ الجدول الزمني بعد الانتخابات الأولى، والانتقال لمرحلة كتابة الدستور الدائم. وقد طالب العديدون منا بتأجيل كتابة الدستور، واعتبار مصالح العراقيين والديمقراطية هي المعيار والأساس، وليس كتابة مسودات مهلهلة على قدم الاستعجال. وكان العديد من الصحف الأمريكية والبريطانية قد انتقد ذلك الإصرار وتلك الضغوط، وكتبوا أن المهم هو إعداد دستور ديمقراطي يجمع ولا يفرق أو يميز. كما أن تلك الصحف وصحفا غربية أخرى انتقدت بشدة رضوخ الإدارة الأمريكية لطلب جعل الإسلام مرجعا أساسيا للتشريع وإخضاع حقوق المرأة لأحكام الشريعة، وهو ما ينافي الديمقراطية جملة وتفصيلا. أما السفير الأمريكي فقد هلل واستبشر وراح يصرح بأن الدستور العراقي هو "الأكثر لبرالية في المنطقة"، كانما المقاس هي الدساتير المتخلفة.
وهكذا، فإنني أرى أن المخرج من التوتر الراهن وضجة الاحتجاج على النتائج الانتخابية هو في تشكيل اللجنة المحايدة مارة الوصف، بدلا من دق طبول النصر ، أو طبول التهديد والوعيد. كما أرى أن على الأحزاب والعناصر العلمانية المعترضة على النتائج، أن لا تخلط مواقفها بمواقف الاعتراض من أطراف طائفية أو ذات برامج إسلامية أو متعاطفة مع النظام السابق.تعاطفا متسترا. إن القوى العلمانية، بكل تياراتها وأطرافها وقومياتها، مدعوة لعدم الانزلاق في مطبات جديدة لمجرد اعتراضها على النتائج، وهو اعتراض، وكما قلت في مقال سابق، يمكن على الأقل قبول نصفه مسبقا، من جهة تهديدات وممارسات المليشيات، والتدخل الإيراني، والتصويت المتكرر للأشخاص، واختراق المفوضية ومعظم مكاتبها وبلا قناع، كما كانت حالة السيدة حمدية الحسيني صاحبة العقود المعروفة ومصاريف البذخ الكبرى! يبقى أن نتوقف قليلا عند ظاهرة وممارسة لعبة التوقيعات المستعارة، التي لا تناقش الأفكار بل تستبدل ذلك بالشتم والمهاترة، وبالَنفَس الطائفي المقيت [ بفتح كل من النون والفاء ].
نعرف أن استعارة الأسماء يمكن استخدامها خوفا من سلطة غاشمة، أو تهديد، أو خوف على منصب أو مغنم. ولكن ما لهؤلاء المعتنقين لنهج الشتم والردح وهم في الخارج يتقنعون في تعليقاتهم على مقالات كتاب عراقيين ليست لديهم لا سلطة، ولا مليشيات مسلحة تصول وتجول، ولا يملكون الملايين لشراء الذمم والأصوات!! إن التفسير الأعم هو الرعب من النقاش الجدي، والشعور بالعجز والإفلاس؛ وأحيانا يقترن هذا بالتنفيس عن عقد شخصية، أو طائفية، أو سياسية مريضة، أو شعور بالنقص وحب للشهرة، فيجري اللجوء لمستنقع المهاترة ومحتوياته غير النظيفة. أما من يعيبون على الآخر تبدل مواقفه السياسية [ لا مبادئه]، ه فالمهم هو هل هذا التبدل هو نحو الأفضل أم نحو السيئ، وهل رافق التبدل تغيير وانعطاف في القيم الأساسية كالنظرة للمرأة، أو المبدأ العلماني، أو الإيمان بحقوق القوميات والأقليات. مؤسف الاضطرار لهذا الاستطراد، رغم أنه بقدر ما يتعلق الأمر بي، فقد عالجت الموضوع لحد الإشباع، وخصوصا في آخر كتبي وفي حواري مع موقع إيلاف. ويستحسن هنا اقتطاف فقرات من الفصل الأخير من كتابي: "لا أزال علمانيا بمعنى الفصل بين شؤون الدولة وشؤون الدين.."، و" أنا وطني عراقي، يؤمن بالخيمة العراقية الواحدة، ويعارض جميع أخطار تقسيم الوطن وتفكيكه، ويؤمن بأن الديمقراطية وحدها طريق التماسك والتقدم والازدهار.. عراقي، ولكنني كردي، وأعتز بقوميتي، وكردي فيلي، أتضامن مع القضية الفيلية العادلة، بتصميم يقويه شعوري بالتقصير سابقا. كما أنني لا أتردد عن إعلان انتمائي المذهبي العائلي الشيعي، رغم معارضتي لجميع أشكال الطائفية المقيتة، فأنا هنا أقر بحقيقة، وليس عن تعصب طائفي.." [ ص 591 من كتاب شهادة للتاريخ الصادر في لندن في أواسط 2002 ]. في زماننا الأول ناضلنا لا من أجل مكاسب أو منافع شخصية، وعدت مع كتاب كثيرين من أصدقائي بلا بيوت شخصية ولا رصيد دسم في البنوك. كما أنه، رغم أنني كنت موظفا في 1947، أي قبل تأسيس حزب البعث العراقي ومعظم الأحزاب العراقية الراهنة، فلا أزال محروما من حقوقي التقاعدية؛ ومن حسن الحظ أننا نعيش الغربة في دول ديمقراطية نتمتع فيها لا بالحرية والكرامة حسب، بل وأيضا بالعون الاجتماعي والصحي. وشخصيا أشعر بامتنان لهم، عكس الكثيرين ممن يهربون خوفا من بلدانهم و يعيشون على العون الاجتماعي الغربي ثم يشتمون الغرب، بل ومنهم من يدعون لمحاربته، كما هو موقف المتطرفين الإسلاميين، ولا سيما الإرهابيين منهم. وما دمنا في هذا الغرب، فإنني لا أبرر هذا الاستخدام الواسع لبعض من يعيشون في الغرب للأسماء المستعارة في تعليقاتهم على مقالات كتاب لا تعجبهم آراؤهم، فيعتبرونهم أعداء. ولعل بينهم من يأسفون لعجزهم عن قطع رقاب المخالفين بالقامة أو قصفهم برشاشة!

عزيز الحاج
24/12/2005