الانتخابات والجنسية: تساهل مقصود أم فوضى منظمة؟


مما لا جدال فيه ان قانون الجنسية، في أي من بلدان العالم، من المعالم الحضارية الدالة على احترام هذا البلد للانسان وحقوقه، وفي مقدمها حقه في الحصول على الجنسية ضمن الضوابط والاصول الذي تنص عليها القوانين. وفي كل الحالات، تحتفظ السلطات المختصة بحق رفض منح الجنسية في حالات خاصة ولأسباب معللة. وعليه، ليس هناك من بلد يمنح جنسيته تلقائياً.

وفي مسألة الجنسية، كانت القوانين العراقية السابقة الاغرب والاكثر تعقيداُ وتخلفاُ، اذ اشترطت، منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة بعد عام 1921، أ ن يكون العراقي من ابوين كانا من رعايا الدولة العثمانية حصراً، وعليه حرم آلاف العراقيين من جنسية بلدهم، لأسباب غالبا ما أخذ فيها فيها في الاعتبار الانتماء الطائفي او العرقي في المقام الاول. وحين تسلم حزب «البعث» مقاليد السلطة في العراق، لم يتمسك بقانون الجنسية المذكور فحسب، بل زاد عليه موضوع الولاء الحصري للحزب المذكور. ففتحت الابواب على مصراعيها لكل من يريد الحصول على الجنسية العراقية اذا كان من الموالين للنظام، فيما اسقطت عن مئات الآلاف من عراقيين منذ الجد العاشر، وطال الاسقاط في بعض مراحله شخصيات بارزة كالشاعرين محمد مهدي الجواهري وعبدالوهاب البياتي وغيرهما.

كانت الجنسية العراقية، آنذاك، تتعرض للامتهان في شكل متواصل، ولم يكن ذلك مستغرباً في وقت كان العراق بأكمله مصادراً يحكمه عرف تحول مزاجاً شخصياً لحاكم كانت رغباته وحدها قانوناً.

ومع سقوط النظام، وما رافقه من حديث عن الديموقراطية وما يرافقها من قوانين عصرية، ساد التفاؤل بأننا سنكون امام وضع سليم لا سلطة فيه سوى للقوانين المرعية التي ينال وفقها صاحب كل حق حقه، بعيدا من اي حسابات للانتماء. لكن أحداً لم يكن يتصور أن تبلغ الامور حداً تفتح فيه الابواب والنوافذ لأي شاء ان يكون عراقيا ويدلي بصوته في انتخابات تحدد مصير البلد واشكال حياته المقبلة، من دون سلوك الطرق المعتادة في التقدم بطلب شخصي للحصول على الجنسية، كما هو معمول به في دول العالم المتحضر.

فقد حددت المفوضية العليا للانتخابات ان «من ولد في العراق او كان من ام عراقية» فهو عراقي في شكل تلقائي حتى لو لم يحمل أي وثيقة تشير الى عراقيته، وعليه يستطيع من يشاء، واي كانت الجنسية التي يحملها، ان يشارك في الاقتراع لمجرد ان جواز سفره او بطاقته الشخصية من بلده تشير الى ان مكان ولادته هو العراق، وهو أمر لم يحصل بعد في بلد آخر، ويمثل شكلاً غريباً من تطبيق يبدو منشداً لإعتبارات لا علاقة لها بحقوق الانسان أو المفهوم الحضاري لذلك، بمقدار ما يمثل امتهاناً من نوع آخر للجنسية، يأتي هذه المرة محمولاً بعربة ديموقراطية.

لكن المثير للإستغراب هو التجاهل لما اشير قبيل التصويت على الدستور، عن تعديلات طالت بعض بنود المسودة الاساسية قبل طرحها على الاستفتاء، واعلن يومها انها وضعت في ملحق خاص لتكون جزءا من مواد الدستور غير منفصلة عنه، وكان من ضمنها ما يتعلق بقانون الجنسية الذي كان موضع خلاف شديد بين القوى السياسية وممثليها في لجنة الصياغة. الا ان تعليمات المفوضية التي اصدرتها في نشراتها وبياناتها عمن تحق له المشاركة، تبدو متناقضة كلياً حتى مع بعضها بعضاً. فقد حسبت المقاعد المخصصة للمحافظات بمعدل مقعد واحد لكل 100 الف من السكان، اعتماداً على البطاقة التموينية، أي من دون أي حساب لما يمكن ان يطغى على العدد من زيادة في هذه المحافظة او تلك (كل من ولد فيها أو كل من هو من ام عراقية) من جنسيات أخرى.

والجدير بالملاحظة ان بنداً يشير الى حق كل من «كان عراقياً» المشاركة في الاقتراع، من دون تحديد الفترة الزمنية التي كان فيها يتمتع بالجنسية العراقية، يحمل في طياته السماح لأكثر من ربع مليون من اليهود العراقيين في اسرائيلي، استعادة الجنسية في شكل تلقائي، ما دموا ممن تحق لهم المشاركة في الاقتراع، فهل كان القصد من كل ذلك هو هذا الأمر؟

وعلى افتراض ان آلافاً من هؤلاء صوتوا في محافظة ما، الامر الذي يحتم رفع نسبة تمثيلها تطبيقاً للقانون، فكيف ستتصرف المفوضية في هذه الحال؟ وهل ما حدث في كركوك أخيراً من إضافة مئتي ألف ناخب اليها، يأتي في السياق عينه؟ ثم الا تسمح تعليمات من هذا النوع بالقيام بعمليات تزوير واسعة؟ بل الا تعتبر، في حد ذاتها، دعوة مفتوحة الى التزوير؟ ومن اصدر تعليماته الى المفوضية المذكورة لتأتي الاصوات على هذه الشاكلة؟ ولمصلحة من؟ اسئلة كثيرة بات مطلوباً الاجابة عنها، وان كانت المفوضية تبدو مطمئنة بأن احداً لن يطالها بشيء، ربما لأنها تحظ بدعم قوي من اطراف تبدو قادرة على استثمار هذا التوجه.

علي السعدي ـ كاتب عراقي

المصدر: جريدة الحياة، 16/12/2005