الديمقراطية لا يبنيها غير المؤمنين بها حقا


لا بد أولا من تحية المشاركين في انتخابات اليوم ولاسيما من قاطعوا الانتخابات السابقة وكانوا على خطأ جسيم.
إن مجرد إجراء الانتخابات هو خطوة صحية، لأن الانتخابات هي من الأسس والمقومات الهامة للديمقراطية. ولنأمل أن تؤدي الانتخابات إلى تحسن ما في توازن القوى داخل البرلمان القادم وفي تركيب الحكومة، بدلا من الهيمنة الراهنة لأطراف الائتلاف على أهم مفاصل السلطة، وخصوصا الداخلية والأمن ولجنة النزاهة، ناهيكم عن اللجنة الدستورية السابقة وغيرها من مراكز هامة، وأضف لكل هذا انفلات ميليشياتها.
لقد سبقت الانتخابات الراهنة ورافقتها سلسلة من عمليات الاغتيال والاعتداء وتمزيق الملصقات؛ ويوم أمس جرى ذلك الهجوم الفاشي على مقري القائمة العراقية والحزب الشيوعي في الناصرية، مما يذكرنا باعتداءات العصابات النازية قبل التهام السلطة، أو الحرس القومي وفدائيي صدام. ولا عجب، ولكن لا فخر! فهذه الممارسات وأكبر منها تستمر منذ سقوط صدام في كافة المناطق الجنوبية وفي البصرة خاصة وحتى في قلب بغداد نفسها وحيث اكتشاف المزيد من السجون السرية وفضائح التعذيب.
كما تقترن بالانتخابات أيضا إجراءات للهيمنة على انتخابات الخارج، وما نشر أمس في إيلاف عن فضائح مالية وإدارية نسبت للسيدة حمدية الحسيني من الائتلافيين، والتي عينوها مسؤولة انتخابات الخارج. من ذلك حسب التقرير عقد بمبلغ 4 ملايين دولار من ميزانية المفوضية العليا، البالغة 56 مليون دولار، مع شركة السيد رضا الشهرستاني، شقيق القطب الائتلافي الدكتور حسين الشهرستاني، وهي شركة موجودة في الأردن. وبموجب التقرير المنشور، فإن هذا العقد هو بعنوان الدعاية الانتخابية مع أن المفوضية العليا سبق أن رفضت تعيين السيد رضا مسؤولا للانتخابات في دولة الإمارات.
هكذا يستمر الاستحواذ والتسلط. وواضح أنه بالرغم من كل الصرخات الاتهامية الصادرة عن لجنة النزاهة والحكومة وكل ما أثير حول الفساد سابقا، فإن الفساد الموروث مستمر ومتفاقم.
لقد كتبنا، كما كتب العشرات من كتابنا الوطنيين المجردين من الطائفية والمصلحية الضيقة، أن برامج الإسلام السياسي بمذهبيه على نقيض تام مع الديمقراطية، التي لا تعني الانتخابات فقط. كما أن الانتخابات نفسها لن تكون عملية ديمقراطية حقا عندما تعكس قيما متخلفة سائدة في المجتمع، ونزعات التطرف المذهبي أو العرقي، وعقلية تجاوز القانون، واضمحلال مبدأ المواطنة، وعندما تتم الانتخابات بوجود دستور مشوه وشبه إسلامي، وعندما تكون ممارسات الأطراف الأكثر هيمنة وتسلطا ممارسات تفرض حكم الشريعة بالقوة، وتعتدي على السافرات، والأقليات الدينية، وتحرم الموسيقى والغناء ومحلات الحلاقة، ألخ، وتسعى لا من أجل دولة المؤسسات بل من أجل نظام الطوائف، وحكم تسلط "الأكثرية".
لا أعتقد أن الانتخابات ستشكل قفزة نوعية كبرى نحو دولة المؤسسات والنظام المدني، ولكن ربما تؤدي إلى تقوية التيارات والأطراف العلمانية من مختلف الاتجاهات والقوميات في البرلمان القادم، بحيث تشكل قوة يعتد بها في وجه مشاريع النظام الإسلامي، وقادرة حقا على إحداث تغييرات جوهرية على الدستور.
لقد سألني صحفي سويسري أمس عما إذا كنت متفائلا، فأجبته بأن التفاؤل سابق لأوانه، ما لم نر النتائج، وما لم تنعطف الجبهة الكردستانية أخيرا نحو عقد تحالفات لصالح الديمقراطية العلمانية الفيدرالية في العراق، وما لم تعزز كل القوى الوطنية والمجتمع المدني جهودها وطاقاتها لمكافحة الإرهابيين الدمويين، الذين يريدون نسف العملية السياسية أصلا، وعودة النظام المهزوم أو تأسيس دولة الخلافة الإسلامية السلفية. كما أن الكثير سيعتمد على مدى حزم الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي لوقف كل من التدخل الإيراني والتدخل السوري في الشأن العراقي، وإحباط المساعي الإيرانية في مجال برنامجها النووي العسكري الذي سيهدد العراق وكل الخليج. وبهذه المناسبة فإنني أتفق مع مضمون مقال الدكتور عبد الخالق حسين ليوم أمس [ 14 منه] في إيلاف الموسوم: (لا استقرار في المنطقة إلا بزوال النظامين الفاشيين). وأخيرا، ودفعا لكل التباس، فلا يعقل أن نأمل بقيام نظام ديمقراطي متكامل وراسخ كسويسرا أو السويد أو بريطانيا أو فرنسا، .. ألخ، في مدى ثلاث سنوات. إن مشكلة عراق ما بعد صدام هو ذلك الجدول الزمني المتعسف الذي فرض علينا كما لو كان الانتقال للديمقراطية كسلق البيض، على حد التعبير الدارج. وقد أشار العديد من الزملاء إلى أن الدساتير في اليابان وألمانيا بعد الحرب الدولية الثانية استغرقت كتابتها سنوات عديدة بينما فرض الجدول الزمني كتابة دستور مستعجل ومهلهل ومتناقض شبه إسلامي، ويكرس لتوازنات هشة في المجتمع. ما كنت شخصيا أترقبه هو أن نتقدم خطوة هامة أخرى للأمام بعد الدستور المؤقت، إلا أن ما حدث هو العكس، أي برجعة للوراء، لا بفعل حركات اجتماعية حقيقية وتلقائية من المجتمع نفسه بقدر ما كان بفعل النخب الدينية والتنظيمات الإسلامية، وتشتت القوى الديمقراطية واللبرالية. إذن فلا ديمقراطية سويسرا ولا السير نحو نظام الطوائف وحكم الشريعة!!

عزيز الحاج
الخميس في 15 كانون الأول ـ ديسمبر 2005