التجربة الديمقراطية في العراق (2-2)


كما ذكرت آنفاً، لم تكن هناك ديمقراطية حقيقية في العهد الملكي. بل كانت هناك ديمقراطية مشوهة وكاذبة حيث كانت النخبة الحاكمة تزيف الانتخابات البرلمانية لصالحها ولم تتحمل المعارضة بغض النظر عن كونها معارضة سلمية وديمقراطية. ومع ذلك حصل تطور اجتماعي واقتصادي في المجتمع العراقي ولكن الخط البياني للديمقراطية كان دائماً يسير نحول الأسفل.
وقد بلغ عداء النخبة الحاكمة للديمقراطية الذروة بعد انتخابات عام 1954. ففي هذا العام ترأس الحكومة المرحوم الدكتور محمد فاضل الجمالي وهو أكاديمي ديمقراطي وليبرالي، خريج إحدى الجامعات الأمريكية وتلميذ الفيلسوف الأمريكي المعروف جون ديوي. حاول الجمالي إنقاذ الموقف ودعم الديمقراطية. فأطلق سراح السجناء السياسيين وأجاز الأحزاب الوطنية ومنظمات المجتمع المدني وأجرى انتخابات برلمانية.
في هذه الانتخابات استطاعت أحزاب المعارضة بالفوز ب 11 مقعد من مجموع 131. لم يتحمل نوري السعيد، الرجل القوي في العهد الملكي والذي ترأس الحكومة 14 مرة، حتى هذا العدد الضئيل من نواب المعارضة في البرلمان، فدبر انقلاب القصر على الجمالي وألغى البرلمان بعد يوم واحد فقط من مراسيم جلسة الافتتاح وخطاب العرش. وبذلك فقد ساعد نوري السعيد على عدم الاستقرار، حيث يئست الأحزاب الوطنية الديمقراطية من الوسائل السلمية في التحول السياسي نحو الديمقراطية ولجؤوا إلى العسكر، فكانت ثورة 14 تموز 1958 بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم الذي أطاح بالملكية وأسس الجمهورية وحضي بتأييد شعبي واسع ومن الأحزاب الوطنية. وقد حولت الجماهير العملية من انقلاب عسكري في ساعاته الأولى إلى ثورة شعبية حقيقية. ولكن هذا التأييد لم يدم طويلاً إذ بعد أسابيع من الثورة بدأت الأحزاب في صراعات دموية، بين الشيوعيين والقوميين انتهت باغتيال الثورة وقادتها في انقلاب عسكري يوم 8 شباط 1963. والزعيم قاسم، حسب ما كتب عنه كتاب ليبراليون، كان مصلحاُ أكثر منه ثورياً، يميل إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، حيث أصدر قانون الجمعيات وأجاز بموجبه الأحزاب وأكثر من 700 من منظمات المجتمع المدني، كما أصدرت الثورة مجموعة من القوانين كلها في صالح الشعب وبالأخص الفقراء منهم. ولكن كانت الأوضاع أقوى من قاسم رغم شعبيته الواسعة، خاصة بعد إسقاط النظام الملكي حيث تم إطلاق جميع الآفات والشرور والصراعات الكامنة في المجتمع العراقي، إضافة إلى تعقيدات الوضع العربي والدولي خلال الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الغربي الرأسمالي والشرقي الشيوعي. وكما يجري اليوم حيث التاريخ يعيد نفسه، فطموحات قاسم في إقامة النظام الديمقراطي واجه مقاومة عنيفة، وانفجرت في وجهه الصراعات الداخلية وتكالبت عليه القوى الخارجية، خاصة من دول الجوار كما الآن، انتهت بذبح الثورة وقادتها في الإنقلاب العسكري البعثي يوم 8 شباط 1963. ثم توالت الانقلابات العسكرية إلى أن تكللت بمجيء البعث ثانية للحكم عام 1968 واغتصاب صدام حسين الحكم المطلق عام 1979 حيث دشن حكمه بمذبحة ضد 22 من قادة حزبه وشدد قبضته على حكم العراق وتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس كأي نظام شمولي متطرف. وقد عانى العراقيون في عهده ظلماً لا مثيل له في التاريخ إلى حد أنه صار من المستحيل تغيير الوضع من قبل الشعب العراقي ومعارضته الوطنية بدون دعم خارجي.
والنظام لم يكتف باضطهاد الشعب العراقي وجرائم إبادة الجنس ضد الأكراد فحسب بل شن الحروب على دول الجوار وشكل خطراً على أمن واستقرار المنطقة والسلام العالمي. لذلك فغير مقبول إخلاقياً ترك هكذا نظام جائر يضطهد شعبه بهذا الشكل المروع بذريعة عدم التدخل في الشؤون الداخلية. ففي الظروف الدولية الحالية لما بعد الحرب الباردة وكارثة 11 سبتمبر 2001، لم تعد هذه الجرائم التي يرتكبها الطغاة ضد شعوبهم من الأمور الداخلية. ففي ظل العولمة تعتبر المشكلة الوطنية مشكلة دولية، كما حصلت نقلة نوعية في وعي الشعوب حيث صارت الديمقراطية ضرورة مطلقة ومن سمات العصر. ولهذا السبب تحرك المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة استجابة للمسؤولية الإخلاقية بشن الحرب على النظام البعثي الجائر وإسقاطه وتحرير الشعب العراقي من جوره. لذلك أعتقد جازماً أن هذه الحرب كانت عادلة وضرورية وحتمية تاريخية ولأنها مهدت الطريق لإقامة النظام الديمقراطي، ليس في العراق فحسب وبل وفي منطقة الشرق الأوسط كلها.
كما أود أن أؤكد أن شعب العراق ليس ناكراً للجميل، ولكن الإعلام لا يبرز إلا أولئك الناكرين للجميل وأصوات النشاز، وهم غالباً من أيتام النظام الساقط والمتعاطفين معه من مثقفي كوبونات النفط الذين خسروا امتيازاتهم، وأعداء الديمقراطية في العراق. وعليه فإني أتقدم بالشكر الجزيل إلى الرئيس جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء توني بلير على قرارهما الشجاع لتحرير العراق كما أشكر كافة الشعوب والحكومات والجيوش التي شاركت في هذا التحالف المقدس لتحرير بلدي وشعبي من أسوأ نظام دموي ديكتاتوري جائر عرفه التاريخ. وأعزي عائلات الجنود الشجعان الذين استشهدوا في هذه الحرب من أجل تحرير الشعب العراقي من أبشع نظام دكتاتوري همجي عرفه التاريخ وجعل العالم أفضل مكاناً للعيش بسلام.

مسألة فرض الديمقراطية بالقوة؟
هناك أسئلة يوجهها البعض، مثلاً هل يصح فرض الديمقراطية على الشعوب بالقوة وتصديرها على ظهور الدبابات الأمريكية أو على الشعوب ذاتها أن تناضل من أجلها؟ هذا السؤال ليس بالضرورة بريئاً من سوء القصد، فهو قول حق يراد به باطل، خاصة لأنه يأتي عادة من أولئك الذين يدعمون الإرهاب في العراق وهم أعداء الديمقراطية.
نعم، الديمقراطية يجب أن تنبت من الداخل ولا يكتب لها النجاح إذا فرضت على الشعب بالقوة من الخارج. ولكن ما حصل في العراق هو ليس استيراد الديمقراطية من الخارج وفرضها بالقوة على الشعب. إن إسقاط النظام الفاشي من قبل قوات التحالف لم ينفرد به الشعب العراقي، لأن هذه القوات ذاتها حررت ألمانيا من النازية وإيطاليا من الفاشية وفرنسا من الإحتلال النازي الألماني واليابان من الديكتاتورية العسكرية. وهذه الدول تعتبر الآن من بين أقوى الدول الصناعية والديمقراطية الكبرى في العالم. في الحقيقة إن دور قوات التحالف في العراق ليس لفرض الديمقراطية بل لإزالة العقبة المانعة للديمقراطية ولخلق بيئة سليمة لولادة الديمقراطية وذلك بمنح الشعب العراقي الفرصة ليقرر بنفسه أي نظام حكم يريد. وهذا ما حصل. ولسبب واضح كان نظام البعث هو العقبة الكأداء أمام الديمقراطية، وزواله كان فوق إمكانية العراقيين بسبب شراسة القمع بما فيه استخدام الأسلحة الكيمياوية التي استخدمها النظام الجائر ضد الشعب. أما بناء النظام الديمقراطي فمن مسؤولية الشعب العراقي وقواه الوطنية. ولحد الآن فإن العملية الديمقراطية جارية وبنجاح. نؤكد إن وجود قوات التحالف في العراق ليس احتلالاً، بل قوات تحرير صديقة وبقاؤها الآن لصالح الشعب العراقي لحماية أرواح الناس وممتلكاتهم من الإرهابيين الصداميين والزرقاويين الوافدين وسوف تغادر هذه القوات عندما تتأكد من قدرة القوات العراقية على القيام بواجبها على أحسن وجه. لقد كان العراق محتلاً احتلالاً داخلياً من قبل حزب البعث لخمسة وثلاثين عاماً، عانى الشعب العراق خلاله أبشع عذاب. وقائمة الفضائع طويلة وباتت معروفة للرأي العام العالمي.

التطورات الديمقراطية في العراق منذ سقوط النظام الفاشي
*- سقوط النظام الفاشي في 9 نيسان 2003،
*- تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في 13 تموز/يوليو 2003،
*- إقرار قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية في 8 آذار 2004،
*- تشكيل أول وزارة بعد سقوط حكم صدام في 28 حزيران 2004،
*- إجراء أول انتخابات برلمانية في 30 كانون الثاني 2005، لانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية المؤقتة والتي كان من أهم مهامها كتابة مسودة الدستور، وكان ناجحاً حيث شارك فيها نحو 60% من المسجلين رغم تهديدات الإرهابيين، وصار الإصبع المصبوغ بالحبر البنفسجي رمزاً للديمقراطية وتحدي الإرهاب،
*- استفتاء الشعب على مسودة الدستور يوم 15 تشرين الأول 2005 بنجاح، حيث كانت نسبة المشاركة أكثر من 10 ملايين نسمة، ولأول مرة في تاريخ البلاد العربية ودول المنطقة تكتب مسودة الدستور من قبل أعضاء منتخبين ويتم استفتاء الشعب عليها وتصير دستوراً مشروعاً.
*- والآن تجري الاستعدادات لإجراء الانتخابات البرلمانية الثانية في 15 ديسمبر القادم لانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الدائمة ذات الصلاحيات الكاملة ولأربعة أعوام.

وهكذا فهناك ثلاث عمليات تصويت في عام واحد إضافة إلى ما صاحبها من السجال بين الأحزاب والمثقفين والمنافسات الحرة بين قوائم المرشحين، كل ذلك عبارة عن دورات تثقيفية مكثفة يتعلم الشعب العراقي من خلالها قواعد الديمقراطية، إنها الديمقراطية في حالة الفعل Democracy in action . فالديمقراطية من تلك الأمور التي يتعلمها الإنسان عن طريق الممارسة والتثقيف وليس عن طريق قراءة الكتب فقط. أنها مثل السباحة، فإذا يريد أن يتعلمها إنسان، عليه أن يذهب إلى النهر أو المسبح. كذلك الديمقراطية تتعلمها المجتمعات عن طريق الممارسة فتخيب مرة وتصيب أخرى إلى أن تتعلم قواعد اللعبة وتصبح جزءً من ثقافاتها كما الحال في الغرب.
والجدير بالذكر إن الذين قاطعوا الانتخابات في 30 يناير/كانون الثاني الماضي قد شاركوا بحماس في الاستفتاء على الدستور، رغم أن غايتهم كانت لإفشاله إلا إنهم طالما اقتنعوا أن صناديق الاقتراع هي الوسيلة الصحيحة للتعبير عن وجهات نظرهم وتحقيق أغراضهم السياسية بدلاً من الرصاص، فهو انتصار للعملية الديمقراطية الجارية الآن. ليس هذا فحسب، بل نسمع الآن رجال الدين العرب السنة يدعون أتباعهم للمشاركة الفعالة وبقوة في الانتخابات القادمة لأنهم توصلوا إلى قناعة أن التمرد المسلح لن يجلب لهم وللعراق سوى الكوارث. وهذا بحد ذاته انتصار للديمقراطية.
ولأول مرة تصبح للمرأة حصة (كوتا) ملزمة في عضوية البرلمان لا تقل عن 25% ودون وضع حد أعلى.
كما ولأول مرة يحطم العراقيون محرماً tabooفي الدول العربية، إذ ليس بالضرورة أن يكون رئيس الجمهورية عربي مسلم سني. فرئيس الجمهورية العراقية الآن هو كردي، السيد جلال طالباني.
لا ندعي أن الدستور الذي نجح في الاستفتاء الأخير كان كاملاً وعادلاً، إذ فيه مواد كثيرة لا نتفق معها كديمقراطيين ليبراليين وعلمانيين، ولكن هذه المواد يمكن تعديلها في المستقبل. إذ ليس من الممكن تحقيق تغيير المجتمع من حكم صدام حسين الجائر إلى نظام توماس جيفرسون الديمقراطي بين عشية وضحاها. إن ما تحقق في العراق خلال عامين استغرق ما بين 8 إلى 12 عاماً في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. والدستور الأمريكي استغرق 12 عاماً لكتابته و تم تعديله ست مرات. فمن الصعوبة مطالبة الشعب العراقي أن يقفز إلى الديمقراطية الغربية الناضجة بهذه السرعة وبعد كل تلك المعانات طويلة.
الديمقراطية في الغرب لم تصل إلى هذا المستوى من النضج إلا بعد مئات السنين حيث صارت جزءً من ثقافة هذه الشعوب.

دروس من التجربة العراقية:
لا شك أن واجه العراق بعد سقوط الفاشية حالة مؤلمة من الفوضى والجريمة المنظمة والإرهاب. والسؤال هو، لماذا حصل ذلك؟ يقول برنارد لويس: "يجب معاملة الديمقراطية كما نتعامل مع الدواء، فالجرعة الكبيرة قد تقتل المريض". إن ما حصل في العراق كان نتيجة جرعة كبيرة من الديمقراطية وضعف حكم القانون وغياب قوات الأمن. فجميع مؤسسات الدولة قد انهارت في ساعات بعد سقوط النظام البعث الفاشي لأنها كانت ممثلة في شخص الدكتاتور صدام حسين. والتحول السريع من دكتاتورية مفرطة في القمع إلى ديمقراطية منفلتة فوق قدرة الناس على الاستيعاب، لا بد من حصول فوضى وانتهاكات.

أعتقد أن الفوضى بعد سقوط أي نظام مستبد شر لا بد منه ويمكن تجنبه فقط في حالة قيام الدكتاتور نفسه بإجراء التحولات من الدكتاتورية إلى الديمقراطية. وأفضل مثال هو ما قام به ميخائيل غورباجوف، رئيس الاتحاد السوفيتي السابق حيث مهد للديمقراطية بالغلاسنوت والبريسترويكا، فجنب بلاده الكثير من المآسي. وصدام حسين ليس غورباجوف. لذلك فما حصل في العراق كان لا بد منه ولم يكن هناك أي بديل آخر غير الذي حصل. ومع ذلك، فالعراق رغم الصعوبات التي يواجهها بسبب الإرهاب، إلا إنه على الطريق الصحيح وفي الاتجاه الصحيح. والشعب العراقي بعد كل تلك المعاناة يمتلك الإرادة القوية والوسائل للمضي قدماً في بناء نظامه الديمقراطي. وقد خرج العفريت من القمقم وسوف لن ولا يسمح مطلقاً لعودة النظام الدكتاتوري الجائر وبأي شكل كان، قومياً أو إسلامياً. وكلي ثقة أن العملية الديمقراطية في العراق ستحقق نجاحاً باهراً رغم الصعوبات، والعراق سيصبح منارة لشعوب المنطقة في تحقيق الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والازدهار الاقتصادي.
وشكراً.

د. عبد الخالق حسين
11/12/2005