ماذا يعني البعث في ذاكرة العراقيين؟


نحن العراقيين، وبحكم التجربة المريرة من المعاناة طوال حكم البعث، صرنا أكثر شعوب العالم معرفة بمعنى (البعث) وماذا تعني هذه المفردة التي هي مرادفة للعنصرية والفاشية والنازية بأسوأ معانيها. فهي تثير في العراقيين الشعور بالرعب والفزع والقرف والمرارة وتحرك فيهم حالة سايكولوجية رهيبة تطاردهم حتى في منامهم على شكل كوابيس مرعبة. والبعث أطلق على حزب سياسي نشأ في سوريا في الأربعينات من القرن الماضي، اسمه الكامل (حزب البعث العربي الاشتراكي)، استمد مبادئه من النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، وطبق بالأساليب الستالينية في العراق وسوريا ضد الديمقراطية ومع الإرهاب. وأعلن الحزب في الظاهر تبنيه لأهداف براقة مثل (الوحدة والحرية والاشتراكية)، ورفع شعاراً خادعاً (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة). أما في الواقع وبعد تجارب عشرات السنين من تسلطه على رقاب الشعبين العراقي والسوري وكذلك ما عاناه الشعب الكويتي خلال ستة أشهر من الغزو البعثي العراقي له عام 1990، فقد عرفنا حقيقة هذه الأهداف والشعارات البراقة.

ففي مخيلة العراقيين ترتبط مفردة (البعث) بالمقابر الجماعية وضحايا الغازات السامة في حلبجة والأنفال وإبادة الجنس والحروب والفقر والجوع والمرض والسجون والتعذيب والظلم والقهر والاستلاب والمنافي وإسقاط الجنسية عن أكثر من مليون مواطن وضياع حياة ومستقبل عدة أجيال وتدمير البيئة... والقائمة تطول. وأهداف البعث تعني العكس تماماًَ لما هو معلن عنه. فالوحدة العربية لا تعني تخريب التضامن العربي فحسب بل وحتى تمزيق الشعب الواحد حيث تم وبشكل مبرمج، تفتيت النسيج الاجتماعي للشعب العراقي وإعادته إلى ما قبل مرحلة تكوين الشعوب أي إلى مرحلة القبلية والجاهلية الأولى. أما الحرية فمعناها العبودية وتأليه الدكتاتور. وأما الاشتراكية فتعني في قاموس البعث الفقر المدقع حتى ولو كان هذا الشعب يعيش في أغنى بلد مثل العراق العائم على بحر من النفط والثروات الطبيعية الأخرى. وباختصار فإن البعث يعني الدمار الشامل.

وحسناً فعل الأستاذ كنعان مكية في تأسيس (مؤسسة الذاكرة العراقية) والتي يديرها الآن الأستاذ مصطفى الكاظمي، وهي مؤسسة تجمع الوثائق وأشرطة الفيديو والأقراص المدمجة، بالصوت والصورة وغيرها تثبت جرائم النظام البعثي الساقط وما عاناه الشعب العراقي خلال حكمه الجائر الذي طال نحو أربعة عقود. والغرض من هذه المؤسسة هو إبقاء جرائم النظام حية في الذاكرة العراقية لكي لا يسمح الشعب العراقي بعودة هكذا سلطة جائرة في المستقبل. وهو يشبه ما تقوم به الدول الأوربية بتذكير شعوبها باستمرار بجرائم النازية والفاشية لمنع تكرارها.

مناسبة هذه المقالة هي ما أذاعته وكالات الأنباء عن اكتشاف مقبرة جماعية في وادي البقاع قرب المقر الرئيسي لجهاز الاستخبارات السورية التي كانت عاملة في لبنان نحو ثلاثين عاماً وعلى بعد ثلاثة كيلومترات من الحدود السورية ونقل رفات ستة وعشرين من الضحايا اللبنانيين إلى بيروت للتحري والكشف عن هوياتهم. فخلال فترة الاحتلال السوري للبنان، أعلن عن اختفاء العشرات وربما المئات من اللبنانيين دون العثور على أثر لهم. والآن وبعد انسحاب القوات السورية وتحرير لبنان وفق قرار مجلس الأمن الدولي 1559، "طلعت الشمس على الحرامية" كما يقول المثل، وظهرت آثار جرائم البعث السوري. فهذه المقبرة هي أول الغيث والبقية تأتي. وهذا رد على جميع تخرصات أولئك الذين يدافعون عن حزب البعث، سواء العراقي أو السوري وراحوا يشككون بصراخ العراقيين من ظلم البعث. ولما طال الظلم أعضاء الحزب نفسه في العراق، ألقى بعض العروبيين اللوم على صدام حسين وحده من أجل تبرئة الحزب، وهذا طبعاً خداع وتضليل وجهل مفتعل.

إن صدام حسين لم يأت من فراغ، بل هو الوليد الشرعي لآيديولوجية حزب البعث. وقد ذكرنا مراراً وتكراراً أن صدام استطاع إزاحة منافسيه في الحزب والتسلق إلى قمة قيادته لأنه كان الشخص الأنسب والمهيأ أكثر من غيره، ساكولوجياً وتربوياً واخلاقياً، لهذه الآيديولوجية العدوانية ولهكذا حزب مافيوزي. لذلك وكما قال "القائد المؤسس" ميشيل عفلق أن "حزب البعث هدية الأمة العربية للعراق وصدام حسين هدية العراق للأمة العربية". بمعنى وافق شن طبقة، كما يقول العرب!! لذلك فهذه الجرائم البشعة التي ارتكبها نظام البعث ليس بسبب صدام وحده وتبرئة الحزب منها، بل هي نتاج الحزب وآيدويلوجيته الفاشية، سواء كان هذا الحزب في العراق بقيادة صدام حسين أو في سوريا بقيادة حافظ الأسد أو ابنه بشار الأسد، فلا فرق في الزمان والمكان والقيادات. ولمن يصر على تبرئة البعث من الجرائم، نسألهم ما يلي: ماذا كان موقع صدام حسين في الحزب في عهد انقلاب 8 شباط 1963 البعثي-القومي العروبي الأول والذي أطاح بثورة 14 تموز، حيث قام الفاشيست بمجزرة رهيبة في العراق وبمباركة بعض رجال الدين، من السنة والشيعة، راح ضحيتها أكثر من عشرين ألف من خيرة الوطنيين العراقيين؟ كما وضاقت السجون والمعتقلات بالمعتقلين، فحولوا الأندية والملاعب الرياضية إلى معتقلات ومقار للقتل والتعذيب. لم يكن صدام في ذلك الوقت أكثر من عضو قاعدي وحرس قومي، يمارس هواياته في تعذيب العراقيين.

أيها السادة، إن ما جرى في العراق وما سيكشف عنه الزمن قريباً في سوريا ولبنان، هو نتاج آيديولوجة البعث ولا يهم من هو في قيادته. فالكل يعرف ما عمله البعث السوري في مدينة حماه في السبعينات حيث قامت القوات البعثية بمجزرة رهيبة ضد سكانها الآمنين بسب مظاهرة احتجاجية عادية راح ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف مواطن سوري، إضافة إلى نسف البيوت والممتلكات على رؤوس أصحابها. والله يعلم كم من مقابر جماعية سيتم اكتشافها في سوريا ولبنان بعد سقوط النظام السوري الفاشي كما حصل في العراق بعد سقوط هذا النظام الجائر فيه يوم 9 نيسان 2003 الأغر. الله في عون الشعبين اللبناني والسوري مما ارتكبه ويرتكبه هذا الحزب الفاشي ضد هذين الشعبين المسالمين. لقد صار اسم البعث مرادفاً للإرهاب سواء كان في السلطة أو خارجها. وما يجري في العراق بعد سقوطه من جرائم على أيدي فلوله وفي لبنان من تفجيرات واغتيال للشخصيات المناوئة للنظام السوري لدليل قاطع على ذلك.

وذات السياسة التي يمارسها النظام العروبي في ليبيا بقيادة "الأخ" معمر القذافي، الذي بدد ثروات البلد في بناء ترسانة أسلحة الدمار الشامل والذي اضطر أخيراً وبعد تهديده بمصير صدام حسين، فسلم كل ما عنده إلى أمريكا لكي ينجو بجلده. والمصير ذاته، ينتظر النظامين، الإيراني والسوري، في المستقبل القريب.

يجب أن نميز بين الحركات الوطنية والحركات القومية. وأفضل وصف جاء من الرئيس الألماني يوهانس راو عندما قال: "الوطني هو إنسان يحب ارض أجداده، والقومي هو الذي يحتقر أراضي اجداد الآخرين." فمعظم الحركات القومية انتهت بالعنصرية وقادت شعوبها إلى الكوارث، مثل النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا وحركة القومية العربية الناصرية في البلاد العربية التي انتهت بهزيمة حزيران/يونيو1967، وليس آخرها هزيمة البعث في العراق وما جلبه على العراق والشعوب العربية من دمار. فمتى يفيق العرب من هذا الخدر الآيدويلوجي العروبي والإسلاموي ليسيروا بانسجام مع ركب الحضارة الإنسانية؟

إني أتوقع من بعض المعقبين على مقالاتي هذه من العنصريين العرب والإسلامويين المتطرفين مواصلة ما اعتادوا عليه في توجيه السباب لكل من لا يوافقهم على عنصريتهم، واتهامهم لكل من يوجه لهم النص وقول الحقيقة بالشعوبية والعمالة للاستعمار والصهيونية... إلى آخر الأسطوانة المشروخة. فنقول لهؤلاء أفيقوا من غفوتكم فإنكم تسيرون نحو الهاوية وأنتم نيام. إذ ليس هناك من لا يعتز بانتمائه القومي والديني والمذهبي... ولكن يجب عدم تسييس هذه الانتماءات، حيث ألحق بها أشد الأضرار عندما تم زج العروبة والدين والطائفة بالسياسة. فالديمقراطيون العلمانيون في الغرب ليسوا ضد انتماءاتهم القومية أو الدينية، ولكنهم ضد جميع أشكال التمييز، العنصري والديني والطائفي وشعارهم عش ودع غيرك يعيش. وإثارة الكراهية بين مكونات البشر جريمة يعاقب عليها بقوانين صارمة. ولذلك عاشت هذه الشعوب منذ القضاء على النازية والفاشية قبل أكثر من 60 عاماً، بسلام وحققت قفزات هائلة في التقدم في جميع المجالات. وطالما بقيتم ترددون الأفكار الغوغائية وتسويق الشعارات العنصرية والدينية والطائفية وتأليه جلاديكم من الحكام المستبدين، فهناك المزيد من القهقرى والتراجع والمزيد من الكوارث.

د. عبدالخالق حسين
6/12/2005