حول القراءات "العمياوية!


"العمياوي" هو التعبير العراقي الدارج لكلمة أعمى و"عمياوية" لكلمة عمياء. استعملت التعبير الدارج عام 1994 في مقال بجريدة "الحياة" ردا على كاتب كردي معروف نشر في الجريدة مقالا بعنوان "عزيز الحاج وخطايا الأقليات القومية". كان المقال يتضمن تهما لي بتناسي أصولي القومية الكردية و"الذوبان في القومية الأكبر." ويضيف الكاتب كوني لا أعترف بوجود حركة تحرر قومي كردية بل أعتبر الحركات الكردية مجرد دسائس استعمارية وصهيونية وإيرانية. رددت على المقال بمقال عنوانه "القضية الكردية وخطايا القراءة العمياوية"، أشرت فيه لكون الكاتب جزأ آرائي ومواقفي واقتبس فقرات منزوعة من السياق، وكيف أن مواقفي المبدئية من القضية الكردية لم تتبدل سواء منذ كنت في الحركة الشيوعية أو بعدها، وأعني الاعتراف بوجود أمة كردية مجزأة وحقها في تقرير المصير الكامل، وهو ما ضمنته عام 1970 مقالا كبيرا في جريدة الثورة البعثية نفسها وبصراحة تامة، وكان مقالا يطالب الأنظمة المعنية والقيادات السياسية العربية بالاعتراف بحق الأمة الكردية في تقرير المصير لحد قيام دولة كردية مستقلة، وفي الوقت نفسه التأكيد على مبدأ الأخوة العربية ـ الكردية في العراق، وكيف أن المصالح العليا للشعب الكردي في العراق تقتضي ضمان حقه في الحكم الذاتي، [اليوم في الفيدرالية]، وممارسة حقوقه الأخرى في إطار عراق ديمقراطي موحد. أما عن الدسائس والمناورات الخارجية لاستغلال الأماني القومية الكردية، فكانت أمرا واقعا وفي العديد من الحالات والعهود، وهو أيضا ما كان يجري من استغلال للأماني العربية خلال الحرب الدولية الأولى أو استغلال القضية الأرمنية أو مأساة المذابح الهتلرية المروعة لليهود. إلا أن أية محاولات خارجية لاستغلال القضية الكردية لا تنفي وجود قضية كردية عادلة بمطالب مشروعة. وقد استشهدت في ردي بمقتطفات ضافية من كتابات وتصريحات القادة الأكراد أنفسهم وخصوصا سيادة الأخ الكبير الأستاذ جلال طالباني.
كنت أقصد بالنظرة "العمياوية" أكثر من مجرد النظرة العمياء بل تلك المقرونة بالتعامي، أي التجاهل أو الجهل المقصود على حد تعبير المفكر الفرنسي ريفيل وهو يعالج العقدة الفرنسية المزمنة في كراهية أمريكا، سياسة ومجتمعا وثقافة وسينما، واعتبار المجتمع الأمريكي نفسه "أسوء مجتمع عرف لحد اليوم."
أبدأ بهذه المقدمة للتعقيب على سلسلة ردود متشنجة غاضبة على مقالاتي ومقالات عدد آخر من الكتاب العراقيين. فإذا نشرنا عشرات المقالات تنديدا بالإرهاب البعثي ـ الزرقاوي وجرائمه، وبجرائم النظام السابق ومقابره الجماعية، فإن أمثال هؤلاء من أصحاب الردود المغرضة يتجاهلونها بالمرة حالما تبدأ بالتنديد بالتدخل الإيراني الواسع والمكشوف. أما عندما ننتقد أداء وممارسات التنظيمات والأحزاب الدينية الحاكمة والمهيمنة على مفاتيح السلطة وعلى كل الجنوب، فإن هؤلاء يهبون كمن لدغتهم الأفاعي السامة والعقارب، صارخين هائجين ضد ما يعتبرونه "طائفية"، [ نقطة ضوء: لأول مرة يُتهم مثقفون شيعة بكونهم طائفيين ضد الشيعة!!!]، ويتساءلون بغضب: "ولماذا لا تنددون بالجرائم المستمرة ضد الشيعة؟ لماذا تنسون جرائم صدام والتكفيريين؟"
لقد نشرت شخصيا عشرات المقالات عن الوضع العراقي مدينا جرائم الإرهابيين ومواقف الجامعة والمثقفين والإعلاميين والنواب العرب من العراق منذ قيام مجلس الحكم، ولكنني أيضا نشرت بعد أسبوعين من سقوط صدام مقالا عنوانه: "أوقفوا الوافدة الطالبانية في مهدها"" في إدانة لممارسات الصدريين وغيرهم من الإسلاميين في مدينة الثورة، وتدخل العمائم في شؤون المرأة والجامعات ومطاردة المسيحيين والمندائيين والاعتداءات على السينمات ومحلات بيع الخمور والحلاقين، ألخ.. فجرائم صدام لا تبرر ممارسات مماثلة يقترفها "ضحايا أمس". واليوم، فإن وزارات بكاملها التي تسيطر عليها التنظيمات السياسية الشيعية تفرض على الطلبة والموظفين قيودا وضوابط تذكر بما كان يمارسه الطالبان.
إن من يقرأ "سكيجات" الكاتب العراقي الموهوب شلش العراقي، يجد نفس الإدانة لتصرفات العمائم في مدينة الثورة وبغداد ولكن ليس في مقالات سياسية تحليلية بل بلغة أدبية ساخرة وعلى ألسنة شخصياته الشعبية أمثال خنجر، والسكران عباس، وغيرهما. في الكثير من قطعه نقد صارم على لسان هذا البطل أو ذاك للسيد الحكيم وللصدر مقتدى، ناهيكم عن التصوير البارع وبأسلوب شعبي للخراب الفكري والاجتماعي الذي تركه النظام الفاشي المنهار. كما يحدثنا بطرافة وسخرية عن وثيقة الدستور التي وزعت في اللحظات الأخيرة على الناس وكأنها جريدة يومية، وكيف كان السكان [ كم عدد غير الأميين في المدينة ؟!! ] يقرؤونها ويرددون بنودها وكأنهم "في امتحان بكالوريا!!" وتنشب خلافات حادة حول بعض المواد وتخشى نساء ورجال عدم إقرار الدستور ولكن بطل شلش يحسم القضية بقوله: ولماذا هذه الضجة" ؟! تكفي كلمة " نعم" واحدة من السيد السيستاني ليصبح الدستور في الجيب! فهل ليس هذا ما نكتبه في مقالاتنا السياسية عن التدخل المستمر للمرجعية في أدق تفاصيل السياسة وكأنها ليست مجرد مرجعية دينية لشيعة العراق بل وهي أيضا مرجعية سياسية لجميع العراقيين. وقد ذكرنا في مقالنا الأخير بعنوان "المهازل والخناجر" [من خنجر شلش!] أن المرجعية تتدخل في الانتخابات القادمة أيضا ولصالح الائتلافيين بعد أن قيل إنها أعلنت عن خطأ تدخلها لصالحهم في الانتخابات الماضية. وهذه هي أنباء اليوم تؤكد معلومتنا، وحيث ورد في أخبار صحيفة "الشرق الأوسط" ليوم الأحد 4 ديسمبر 2005 ما يلي:
" دعا المرجع الديني الشيعي أتباعه أمس للإقبال على التصويت بكثافة في الانتخابات العامة المزمع إجراؤها بالعراق في 15 ديسمبر [ كانون الأول ] الحالي، وحثهم على تأييد الكتل الدينية." وأضاف ممثل السيستاني أنه يجب تجنب التصويت لصالح أية قائمة لا يكون زعيمها شخصية دينية." فهل نصدق ممثل المرجع الكبير أم نصدق هؤلاء الكتبة الذين ينفون بعنف تدخل المرجعية في تفاصيل العملية الانتخابية؟ وهل هذا التدخل السياسي لا يجعل مثل هذا الموقف السياسي البحت عرضة للجدل والنقد مادامت هناك عشرات القوائم الانتخابية والمفروض بكبار رجال الدين الوقوف على الحياد والاكتفاء بالدعوة للصفاء والوئام، ونبذ العنف كما كانت مواقف السيد علي السيستاني في الشهور الأولى بعد 9 نيسان، والتي دعمناها وقيمناها عاليا. وأذكر أنني أرسلت في حينه لصحيفة الزمان مقالا يقيم مواقف السيد السيستاني وأنها تستحق الثناء، فنشرته الصحيفة تحت عنوان" على العراقيين شكر السيد السيستاني."
هناك نقطة أخرى عن الانتخابات: ألا ترى مفوضية الانتخابات أن إقحام الدين ورموزه في العملية الانتخابية منافيا لقانون الانتخابات والمبدأ الديمقراطي؟ طبعا هي تتجاهل الأمر كما تجاهلته في المرة السابقة بينما تبحث في حرمان مرشحي قوائم أخرى بتهمة عدم النزاهة، وهي قوائم قدمتها لجنة بأمر المجلس الأعلى، كما لم نسمع إدانة لاغتيال مرشحين غير دينيين!!
ونضيف لما مر كله انتقاداتنا الكثيرة لضعف أداء محاكمة صدام، ولعمليات إطلاق سراح المعتقلين بتهمة الإرهاب دون تدقيق كاف، حتى أن واحدا منهم ذهب لتفجير نفسه في عمان. فلماذا يكون خاطئا قرار السيد الجعفري وبمبادرة فردية لإطلاق سراح مئات من المعتقلين الإيرانيين فور تسلمه لمنصبه؟ وإذا كنا ندعم قرار منع العرب في هذه الأيام وعشية الانتخابات من دخول العراق تحوطا لتسلل الإرهابيين، فلماذا لا يجوز انتقاد قرار السماح للمئات من الإيرانيين اليوم لدخول العراق بحجة زيارة العتبات المقدسة، مع العلم بأن عناصر كثيرة من الباسداران والحرس الثوري سبق دخولهم بهذه الصفة لكي يتدخلوا في الشؤون العراقية؟
أخيرا فإن من حسن الحظ أنه برز عندنا كاتب ساخر بوزن وموهبة العراقي شلش. اقرؤوا أيضا هذا المقطع الذي يفتتح به آخر مقال له عن تصويره الساخر لتحول فدائيي صدام إلى صدريين:
" اختفت البدلة الزيتونية والمسدس والأضابير [ عزيز: كناية عن الفدائيين ]، وحلت محلها المسبحة والخواتم الكبيرة والطمغة التي على الكصّة [ الجبين ]، سيماهم في وجوههم. العلامات الأولى كانت تروعنا والعلامات الجديدة صارت تروعنا أيضا. لقد استبدلنا رفيق شناوة بسيد طعمة، الأول كان رفيقنا العزيز والثاني مولانا الجليل، الأول جان [ كان ] يمشي والكاع ما شايلته [ مترفعا على الناس ]، والثاني تكول كاعد يصرف علينا، الأول متخلف دراسيا ومعرفيا والثاني لم يدخل المدرسة إلا بعدما أصبح أخوه حارسا فيها." أقول: إن هؤلاء وأمثالهم انضموا أخيرا للعملية السياسية!! ومع الائتلافيين.
كم أتمنى لو حولوا العديد من قطع شلش، التي تشرشح الوضع السياسي والظواهر الشاذة إلى مسلسلات تلفزيونية يمثل فيها أمثال عبّوسي، ذلك الممثل القدير الذي لا ننسى دوره في تمثيلية "تحت موسى الحلاق!"

عزيز الحاج
4 ديسمبر 2005