تداخل أدوار وإربـاك سـياسي وتنظيمي
"الكيانات السياسية" و"منظمات المجتمع المدني"
الكردية الفيلية


د. مجيــد جعفــر (majeed.jafar@maxima.se)


تشكل العديد من المنظمات ألكردية الفيلية في أوربا وغيرها منذ بداية ثمانينات القرن الماضي وفي العراق بعد تحريره من النظام ألصدامي في 9 نيسان 2003 بمسميات تنظيمية مختلفة مثل جمعية، اتحاد، حركة، مجلس، رابطة، منظمة، تجمع، نادي الخ (سيشار إليها جميعا فيما يلي باسم "منظمات" للاختصار). تشكلت هذه المنظمات بشكل عام بحماس ملحوظ واندفاع ظاهر. ولعوامل عديدة داخلية وخارجية، سيشار إلى بعضها أدناه، بدأ الفتور بالتسرب بعد حين إلى صفوف أعضائها وبين أنصارها ليتحول إلى ضعف ووهن يصيب كياناتها لينتهي في أسوء الأحوال إلى اضمحلال واندثار قسم منها وفي أحسن الأحوال تحول قسم آخر منها إلى هياكل بعيدة بشكل عام عن الجمهور الواسع للأكراد الفيلية، عن الأكثرية الصامتة.

تضم المنظمات القائمة عددا قليلا نسبيا من الأعضاء في صفوفها، تدير أمورها وتنظم علاقاتها قلة من الأفراد، مركز الجذب فيهم شخص تجمعه معهم علاقات شخصية تبقي عليهم في صفوفها رغم تردد بعضهم وضعف قناعاتهم، قلة بعيدة بشكل ملحوظ عن هذا الجمهور وهذه الأكثرية، قلة تفتقد إلى النفوذ الفعلي والمؤثر بين أوساط الأكثرية الساحقة من الاكراد الفيلية الذين يلاحظون ويفهمون واقع العزلة هذه ويسبرون غورها وتبعاتها ونتائجها. قلة النفوذ هذه ناتجة، إضافة إلى كثرة عدد المنظمات، عن ممارسات أدت في تراكماتها ومحصلتها النهائية إلى فقدان الثقة وانعدام الانسجام وقلة التعاون وبروز ظاهرة ضعف المرونة. ولذا ساد نتيجة لهذا الواقع المؤسف الفتور وانتشرت خيبة ألأمل وساد الإحباط والتشاؤم وعدم الاكتراث واللامبالاة حتى وصل أحيانا حد النفور لدى البعض والسخرية والاستهزاء لدى قلة قليلة.

حسب بعض المصادر يوجد في العراق ألآن ما لا يقل عن أربعين منظمة كردية فيلية (والعدد في تزايد) لا يتجاوز عدد أعضاء ومؤيدي أكبرها الثلاثين. أما العدد في أوربا فانه قد ينافس أو يضاهي عددها في الداخل. وبالرغم من أن التعددية والتنوع ظاهرة ديمقراطية إلا أن حالة المنظمات الكردية الفيلية تعكس واقع "التشظي" (من شظية) لعدم وجود الاختلافات على الأهداف المعلنة العامة المشتركة فيما بينها. هذا التشظي وخاصة في الأوضاع الراهنة التي يعيشها ألأكراد الفيلية، ظاهرة مؤذية ومؤلمة وخطرة عليهم بالنظر لكثرة عدد هذه المنظمات كما ذكر أعلاه ولتداخل أدوارها ولافتقاد الاكراد الفيلية ألآن لكيانات سياسية كبيرة ولقيادات تتمتع بتأييد أغلبيتهم.

عوامل هذا الواقع المؤسف عديدة، قسم منها داخلي والآخر خارجي. من بينها:
أولا ـ "الضبابية" التي تكتنف تنظيم وهوية هذه المنظمات، هذه الضبابية المتمثلة في عدم وضوح خصائصها وأهدافها ومجالات عملها، فهي تارة كيانات سياسية وتارة أخرى هي ليست كذلك مع أن ممارساتها العملية هي ممارسات كيانات سياسية، وتارة هي جمعيات اجتماعية أو منظمات مهنية أو نسويه أو ثقافية أو رياضية (أي "منظمات مجتمع مدني") ولكنها تمارس في نفس الوقت النشاط السياسي كأي تنظيم سياسي آخر وتدخل في "اتفاقات" سياسية وغيرها مع أحزاب وكيانات سياسية. هذه هي الحالة العامة السائدة.
ثانيا ـ قوة ألـ "أنا" وروح الاستئثار لدى العديد من قياداتها وغلبته على الروح الجماعية، وانتشار ميول الاستئثار والانفراد أكثر من ميول ألتوافق وقبول ألآخرين، وتفضيل الإقصاء على التعايش، والتفرد على الإجماع، وفي بعض الحالات إعطاء أهمية اكبر للمنافع الفردية والمكاسب الشخصية المختلفة من المصالح العامة المشتركة، أي ضعف نكران الذات الذي تتطلبه خدمة ألأهداف العامة المشتركة للمكون الكردي الفيلي العام. ليس من الضروري أن تكون هذه المنافع الفردية والمكاسب الشخصية مالا، بل قد تكون جاها أو حظوة سياسية أو منزلة اجتماعية.
ثالثا ـ ميل العديد من قيادات هذه المنظمات والكيانات لالتقاط نقاط الخلاف والتركيز عليها (إدامة التشظي) بدلا من البحث عن نقاط الالتقاء والتعاون على أساسها (جمع الشمل). هذه ظاهرة ضعف سياسيةـاجتماعية مؤسفة.
رابعا – دور بعض الإطراف في توجيه منظمات المجتمع المدني الكردية الفيلية (التي من المفروض أنها ليست كيانات سياسية) وجهة "سياسيةـحزبية" أو وجهة "سياسيةـمذهبية" وتعامله معها ككيانات سياسية بديلة عن الكيانات السياسية الكردية الفيلية "الصريحة" واستخدامه لهذه المنظمات كعامل معرقل أمام عمل وجهود الكيانات السياسية التي أنشأت حديثا وتفضيله لصيغ وقوالب منظمات المجتمع المدني الكردية الفيلية بعد تسييسها والإصرار على عدم تمييز دور هذه المنظمات عن دور الكيانات السياسية.
لعبت منظمات المجتمع المدني الكردية الفيلية دورا كبيرا وبارزا في المجتمعات الكردية الفيلية في الخارج وبعد تحرير العراق في الداخل ضمن مجالات اختصاصاتها ونطاق نشاطاتها وبذلت هذه المنظمات ولا تزال تبذل جهودا لا تنكر في هذا المجال. ولكن تحولها أو تحويلها إلى (شبه) كيانات سياسية وتعامل البعض معها على أساس هذه الصيغ والقوالب (صيغ وقوالب منظمات المجتمع المدني المسيسة أو المحزبة) أدى إلى بروز حساسيات واحتكاكات وخلافات ضمن صفوفها وفيما بينها وبينها وبين الكيانات السياسية التي أنشأت مؤخرا مما زاد من عوامل ضعفها هي وعرقل دور الكيانات السياسية الكردية الفيلية أيضا وأبقى على، وربما زاد من، تهميش الاكراد الفيلية جميعا.
خامسا ـ "عدم ارتياح" وأحيانا "نفور" بعض الأوساط من إنشاء كيانات سياسية "صريحة" من قبل الاكراد الفيلية إذ أن ردود الفعل ألأولية لدى هذه الأوساط هو انه "شق" للصف الداخلي، إضافة إلى "قلقها" المبني على شكوكها من أن جهات داخلية أو دول جوار لا تريد الخير للأكراد وحقوقهم وتطلعاتهم تقف وراء مثل هذا التطور. ويزيد من هذه الشكوك "أقاويل" لا مسؤولة (تدخل ضمن باب "الدعايات الكاذبة" disinformation) يطلقها جزافا البعض من بين صفوف بعض هذه المنظمات الكردية الفيلية ضد منظمات أو كيانات سياسية كردية فيلية أخرى ويروجها البعض دون استفسار أو تدقيق.

وهنا يطرح سـؤال نفسه وهو ألم يحن ألوقت لكي يقوم المهتمون بالشأن الكردي الفيلي من الاكراد الفيلية والقوى السياسية الأخرى والمستقلين بإعادة التفكير وتغيير المواقف من كل من الكيانات السياسية الكردية ومنظمات المجتمع المدني القائمة أو التي ستقام في المستقبل؟ لقد حان وقت قبولها كما هي (كيانات سياسية ومنظمات مجتمع مدني) وعدم الخلط بينها وبين أدوارها وقبول التعايش السياسي "السلمي" مع الكيانات السياسية لأنها انعكاس لتطور ديمقراطي واقع فعلا قد تتوفر لها فرص أفضل للنجاح في تنظيم وتحشيد الأكثرية الصامتة من الاكراد الفيلية سياسيا إذا سنحت لها أجواء مناسبة وامتنعت هذه الأطراف عن إرباك عملها وتوقفت عن معارضتها أو خلق العراقيل والصعوبات أمامها وأيقنت أن الإصرار على صيغ وقوالب منظمات المجتمع المدني للقيام بالعمل السياسي في صفوف الاكراد الفيلية لم يوفق لحد ألآن.

ظاهرة تداخل أدوار ونشاطات الكيانات السياسية و"منظمات المجتمع المدني" ظاهرة منتشرة جدا في الساحة الكردية الفيلية ولا تلاحظ على الساحتين العراقية والكردستانية إلا نادرا جدا، فالتحالفات والائتلافات والجبهات تقام بين كيانات سياسية وليس بين خليط من الكيانات السياسية ومنظمات المجتمع المدني على عكس ما يجري على المستوى الكردي الفيلي حيت تقام العلاقات (الائتلاف أو التحالف أو "الاتفاقات" أو غيرها) بين كيانات سياسية و"منظمات مجتمع مدني" مهنية ونسويه واجتماعية وغيرها، أو بين "منظمات المجتمع المدني" والكيانات السياسية الكردية الفيلية من جانب وبين أحزاب كردستانية أو عراقية من جانب آخر، ولو بقيت هذه العلاقات غير معلنة من قبل هذه الأحزاب (مع العلم بأن هذه الأحزاب نفسها لا تدخل في مثل هذه العلاقات مع منظمات المجتمع المدني الكردستانية أو العراقية). هذا الواقع يعكس تداخل أدوار بشكل واضح ويلقي ضوء على الإرباك السياسي والتنظيمي السائد في صفوف الاكراد الفيلية والحساسيات والانشقاقات فيما بينها وانتهاء ائتلافاتهم إلى نهايات مؤسفة معروفة.

لــذا ولكي تكون للأكراد الفيلية فرصة واقعية للعب دور ملموس، وليس دور رمزي أو شكلي، في العملية السياسية في العراق الديمقراطي الفدرالي التعددي الموحد ألآن وعلى المدى المتوسط والأمد البعيد (وليس لأوقات الانتخابات فقط)، ولكي يكتب للكيانات السياسية الكردية الفيلية النجاح في العملية السياسية الجارية في العراق ولكي تنجح منظمات المجتمع المدني في نشاطاتها الاجتماعية والثقافية والمهنية وغيرها، ولكي لا يصير الاكراد الفيلية من جديد أكتافا يصعد عليها أو جسورا يمر عليها الآخرون لتحقيق أهدافهم دون أن يحققوا للأكراد الفيلية أية مكاسب فعلية، ينبغي على الكيانات السياسية العمل سوية باتجاه ترتيب البيت السياسي الكردي الفيلي وتوحيد الخطاب السياسي الكردي الفيلي وإقامة صيغة عملية وواقعية من صيغ التعاون والتحالف السياسي تجمع مختلف الاتجاهات والتيارات القومية و"الفيلية"، الديمقراطية والليبرالية، الإسلامية والعلمانية، اليسارية والمحافظة والمستقلة، السائدة في صفوف الاكراد الفيلية (تشكيلة التحالف الكردستاني، على سبيل المثال، شبيه بمثل هذا الطرح) وتعمل تحت مظلة واحدة تتسع لكلها وتهيئ أرضية مناسبة لتعايشها على أساس التوافق وتوفير فرص الديمومة، بعد اتخاذ خطوات بناء الثقة فيما بينها، بهدف تحشيد الأكثرية الصامتة من الاكراد الفيلية لتحقيق أهداف برنامج سياسي واضح المعالم ومتفق عليه، باستخدام أساليب ديمقراطية تتصف بالشفافية، على أن تقود هذا التحالف قيادة مشتركة تؤمن بالديمقراطية قولا وفعلا، قيادة تتمتع باحترام وقبول أغلبية الاكراد الفيلية في الوطن والخارج، قيادة متفاهمة ومتناسقة تعمل في الداخل، قيادة تتصف بالنزاهة والمصداقية والكفاءة ونكران الذات وإرادة الصمود والمواصلة وتتمتع بروح الجماعة والمصلحة العامة وترفض الميول الانفرادية والاستئثار والمكاسب الشخصية والمنافع الفردية، قيادة بعيدة عن الانعزالية "الفيلية" والتطرف القومي والتعصب الطائفي.

وسيكون على رأس مثل هذا البرنامج بذل الجهود الحثيثة من أجل تحقيق المصالح العامة المشتركة للمكون الكردي الفيلي كجزء من الشعب الكردي وشريحة من شرائح المجتمع العراقي ولضمان مشاركتهم الفاعلة والواسعة في العملية السياسية الجارية الآن في العراق. إذا أريد تحقيق نجاح عملي في استعادة الحقوق ورفع المظالم خاصة ألآن في ظل ضعف وتشظي الاكراد الفيلية ينبغي بذل أقصى الجهود جنبا إلى جنب القوى الكردستانية والديمقراطية والوطنية العراقية وكل القوى التي تؤمن بالديمقراطية والتعددية من أجل الحصول على ضمانات سياسية وقانونية ودستورية كافية لمنع تعرض الأجيال القادمة لمثل الكوارث والويلات التي تعرض لها الجيل الحالي والأجيال السابقة خاصة وأن الاكراد الفيلية لوحدهم وبوضعهم الحالي لا يستطيعون تحقيق ذلك ألآن. لتهيئة فرص نجاح مثل هذه التحالف ينبغي أن يكون ضمن صفوفه كيانات سياسية كردية فيلية ذات أهداف أساسية مشتركة لتجنب البلبلة التنظيمية والإرباك السياسي واختلاط الأوراق في صفوف الاكراد الفيلية ومع ألإطراف الأخرى ولكي يكون لمثل هذا التحالف وزن سياسي يحسب له الحساب.

هذه قضية تحتاج لنقاش موضوعي شفاف وهادئ وهادف من أجل وضع نهاية لتداخل الأدوار وللبلبلة التنظيمية والإرباك السياسي، الداخلي والخارجي، لأن الاكراد الفيلية، ومع شديد الأسف، قد يكونوا سائرين ألآن في طريق قد يضيع من جميعهم الفرصة التاريخية المتاحة أمامهم حاليا كمكون من مكونات الشعب الكردي، مكون له خصوصيات تترتب عليها نتائج وتبعات حاسمة وتضعهم في وضع مصيري يتميز، ولكن لا يفصل، عن وضع بقية الشعب الكردي العراق، على رأسها موقعهم الجيوـ سياسي الحالي والمستقبلي (عند حصول تغيرات أساسية في الوضع القانوني لإقليم كردستان وعلاقته مع المركز) ومحيطهم السكاني وبيئتهم الثقافية ووسطهم اللغوي الذي يعيشون فيه، كونهم يقيمون وسط قومية أخرى كبيرة وسائدة، بالرغم من أن الاكراد الفيلية لا زالوا وكما كانوا الامتداد القومي المسالم والسياسي السلمي والثقافي المتفتح والاقتصادي الطموح والمثابر للشعب الكردي في هذا المحيط.

(1) توضيـــــح
ما جاء أعلاه هو وجهات نظر وخلاصة ملاحظات عامة جمعت من تجارب عملية ومتابعة منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي (حين بدأت أولى طلائع المبعدين إلى إيران من الاكراد الفيلية بالمجيء إلى السويد طلبا للجوء والإقامة حيث بدأنا بتنظيم الاجتماعات والندوات التثقيفية الأسبوعية لهم في ستوكهولم حول الاكراد وتأريخ كردستان ودكتاتورية وشوفينية النظام السابق والكوارث التي جلبها على الشعب الكردي وعلى الاكراد الفيلية وحول الوضع الاجتماعي والسياسي في السويد). هذه الملاحظات تتعلق بعمل ودور منظمات المجتمع المدني منذ ذلك الوقت وفي ألآونة الأخيرة بدور الكيانات السياسية الكردية الفيلية ودور الأفراد في كلتاهما. قد يكون لطرح مثل هذه الملاحظات فائدة عامة. ومن نافلة القول إن ما ذُكِرَ أعلاه ليس المقصود منه جهة معينة أو فرد معين وليس القصد منه انتقاص من دور أية جهة أو شخص وليس هدفه إحباط ألهمم أو كسر ألمعنويات، بل هو محاولة متواضعة لتفسير ألواقع الحالي على ضوء تلك الملاحظات والتجارب بهدف العمل الجماعي لوضع حد للهفوات و ألأخطاء ولحل المشاكل والتغلب على الصعوبات التي تعاد وتكرر ولتجنب وصول "المشاريع" الحالية واللاحقة إلى نفس المصير المؤسف والنهاية المؤسفة التي آلت إليها "المشاريع" السابقة، ولا يتم ذلك إلا بالجهد الكردي الفيلي العام وبدعم الأشقاء ومساندة جميع المساندين لحقوق ومصالح الاكراد الفيلية والمهتمين بقضاياهم المشروعة من عراقيين وغيرهم.