دور المنافقين في صنع المستبدين


الدكتاتور لم يأت من لا شيء، بل هو أشبه بالنبتة التي لا تنبت في أرض ما لم تكن التربة خصبة لها. يقول العالم الفرنسي لويس باستور عن قدرة الجراثيم على إحداث المرض: (البذور موجودة ولكن نموها يعتمد على حالة التربة). يعني بذلك أن الجراثيم متوفرة وتدخل أجسامنا على الدوام، ولكن قدرتها على صنع المرض تعتمد على مناعة الجسم. وأقولها بألم، إن أرض العراق تربة خصبة لزراعة الدكتاتوريين ومناعته ضد الإصابة بمرض الاستبداد ضعيفة. وسبب هذه الخصوبة هو كثرة المنافقين من الذين وصفهم العلامة على الوردي ب(وعاظ السلاطين) من المداحين والردّاحين، الشحاذين على أبواب السلاطين من أجل السحت الحرام.

الدافع لهذه المداخلة هو أني اطلعت على مقالة تكرم بها عليّ الصديق فضيلة الشيخ علي القطبي، رجل الدين المتنور، وهي من هذا النموذج الرخيص من أقوال المتملقين من صناع المستبدين، بعنوان (الجعفري مع الحق والحق مع الجعفري.. يدور الحق حيث يدور الجعفري!!). أرجو من الأخ المحرر إبقاء تفعيل الرابط (العنوان) لكي يتمكن القراء الكرام من فتح المقال والإطلاع بأنفسهم على هذا الإسفاف المخجل.

يبدأ الكاتب مقاله، إن جاز لنا أن نسميه مقال، فهو أشبه بقطعة غزلية رخيصة لعاشق ولهان هيمان بمعشوقه، فيقول: (يحتار المرء أحيانا في محاولته لوصف حالة ما أو التعريف بشخصية ما أو تقييم أمر يرى فيه خصال الجمال والكمال ساطعة كسطوع الشمس تثقب الأبصار، عندها لا القلم يكتب ولا الشفة تنبس والعجز يصبح سيد الموقف. وسبب حيرة المرء هو عندما يريد أن يلقي الضوء على شيء ما أو شخصية ما شمسها ونورها أسطع من ضوءه فكيف يا ترى سينيرها والى أي مدى سيكشفها؟.. أليس ضوءه الباهت سيرتد عليه خاسئا وهو حسير؟؟.. وفي عالم الوصف وسماء التعريف بماذا توصف وكيف تقيّم وماذا تنير حين تكون الشمس بازغة مهيمنة حاضرة في كبد السماء، عندها لا يكون للوصف غير الانكفاء والأفول والقصور والضمور..). ويواصل الكاتب قوله لا فظ فوه: (وعجزنا في وصف حبيبنا وسيدنا الجعفري إبراهيم يتزايد يوما بعد يوم كلما أبرز هذا الكريم سجاياه الحميدة وخصاله الكريمة وأخلاقه الرفيعة.. فهذه الشخصية الفذة سحرت قلوب المحبين لهفا.. وأرغمت قلوب الكارهين رغما، فأجبرتها على احترامها والتبجيل لها والخضوع أمامها.. فالحديث عن الجعفري إبراهيم ليس بالأمر الهيّن.. فقد أثبت هذا الإنسان إنه خير مثال للإنسانية وخير نموذج لكي تكون عليه البشرية..). مع الاعتذار لهذا الاقتباس المطول، فالقصد منه فضح الابتذال في الذوبان والتماهي بشخصية الحاكم المعبود.

لا نريد من نقدنا للكاتب التشكيك في اخلاقية الدكتور إبراهيم الجعفري الحميدة، ولكن هل الجعفري هو الوحيد الذي يتمتع بصفات إنسانية نبيلة و السجايا الحميدة؟ فملائمة الشخص المناسب للمنصب المناسب لا يعتمد فقط على طيبته الشخصية وإخلاقه الرفيعة فقط، ورغم أهمية هذه الصفات، بل على مؤهلاته وكفاءته لهذا المنصب. وهل هناك حاجة إلى إسباغ كل هذه الصفات الألوهية على شخص الحاكم وبهذا الغلو؟ يقول الإمام علي (ع): "إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه وأعارته مساوئ غيره". فلماذا لم يمدح الكاتب الجعفري عندما كان الأخير مشرداً في المنافي ولم يمتدحه إلا بعد أن صار رئيساً للوزراء وفي هذا الوقت بالذات، أي وقت الانتخابات البرلمانية؟ فإذا كانت هذه المقالة هي جزء من الحملة الانتخابية فهي ساذجة ودعاية رخيصة، وغايتها مفضوحة ومردودها معكوس على الممدوح.
فلو كان الجعفري فعلاً قد استطاع حل المشاكل الكبرى التي يعاني منها الشعب العراقي مثل تفشي الجريمة المنظمة وتصاعد الإرهاب وغياب الأمن والنقص الشديد في الخدمات... الخ، لقلنا من حق الكاتب أن يكيل هذا الثناء والمديح له ولصفقنا له. إلا إن الذي حصل في عهد حكومة الجعفري هو العكس تماماً، أي تفاقم الجريمة وتصاعد الإرهاب وتردي الخدمات بشكل رهيب بحيث صار هم المواطن هو ترتيب أمره في مغادرة العراق إلى المنافي طلباً للأمن والكرامة. فهل استطاع الجعفري فعلاً حل المشاكل التي يعاني منها الشعب العراقي لكي يستحق كل هذا التأليه؟

وماذا يختلف هذا الكلام في تأليه الجعفري عن قصيدة شفيق الكمالي في مدحه لمعبوده المستبد صدام حسين عندما قال:
تبارك وجهك القدسي فينا كوجه الله ينضح بالجلال
رأيت الله في عينيك والعربا ... الخ
ويقول في قصيدة بعنوان( لولاكَ):
لولاك ما طلع القمر
لولاك ما هطل المطر
لولاك ما اخضر الشجر
لولاك أيضاً ما رأى أحد ولا عرف النظر
لولاك ما كان العراقيون معدودين في جنس البشر
بل لم يكونوا في الخلائق
أو لكانوا دون سمع أو بصر إنا لنحمد حظنا
إذ كنت حصتنا وجاء بك القدر.

ويرد الشاعر الراحل الدكتور زاهد محمد زهدي على هذه القصيدة فيقول:
لولاك ما كان الكدر
لولاك ما عرف العراقيون ما معنى الضجر
لولاك ما كنا نجوع على غنى بين البشر
لولاك لم يهو العراق إلى الحضيض ولا انكسر
لولاك ما صرنا سبايا
ضائعين بلا أثر
لولاك لم تجدب حقول الخير
أو يجر السحاب بلا مطر
لولاك لم تعد تغد النخيل
بلا عذوق أو تمر
إن كنت يا (صدام) من صنع القدر
لم يبق إلا الكفر بالأقدار
حاشا أن يريد الله شراً بالبشر.

وبعد كل هذه الكوارث بسبب الدكتاتورية، ألم يتعظ العراقيون بالدروس التي قدمها لنا شفيق الكمالي وأمثاله من المنافقين في صنع الدكتاتوريين؟ وماذا كانت نتيجة الكمالي؟ لقد سحقه الجلاد كما يسحق الحشرة.
فالجعفري في رأي الكاتب هو إبراهيم الخليل وهو علي بن أبي طالب وهو مع الحق والحق معه…"يدور الحق حيث يدور الجعفري". ويكفي هنا أن نستشهد بأقوال من الإمام علي(ع) لدحض كل هذه الترهات في أدب الدجالين إذ يقول: )الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال). وقد جاءه يوماً أحد المنافقين فراح يغالي في مدحه، فأجابه الإمام قائلاً: (أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك). ولو كنت مكان الجعفري لجابهت هذا الكاتب بنفس كلام الإمام (ع).

د. عبدالخالق حسين
2/12/2005