قراءة في بيان مؤتمر الوفاق العراقي


-1-
اختتم الاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي في القاهرة أعماله في الأسبوع الماضي بصيغة عربية تقليدية (لا غالب ولا مغلوب) ولكي (لا يموت الراعي ولا يفنى الغنم) وقيل أنها ارضت الطرفين العراقيين: طرف الشرعية العراقية، وطرف الخارجين على هذه الشرعية، وهم المتمثلون بهيئة علماء المسلمين أو ما يطلق عليه بـ "هيئة الضواري" (حارث الضاري ومثنى الضاري) والذين ناصبوا العراق الجديد العداء والكراهية، ورفعوا السيوف في وجه الألوف .
ويقال أن هذه النتيجة جاءت بفضل وساطات عربية شاقة، علماً بأن الأمر لا يحتاج إلى كل هذه الوساطات. فلم تستجب السُنَّة العربية العراقية لنداء المستقبل العراقي إلا بعد أن تبين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود. خيط الحرية والديمقراطية الأبيض من خيط الارهاب والفوضى الأسود. وبعد أن تعافى العراق أو كاد أن يتعافى من الأزمة السياسية التي مرَّ بها. وبعد أن اكتمل أو كاد أن يكتمل البناء السياسي العراقي الجديد. وبعد أن أصبح القطار العراقي في محطته الأخيرة، فمن لا يركب الآن فيه، لن يصل أبداً. وبعد أن تأكد للسُنَّة العربية العراقية أن لا ارهاب في العراق يمكن أن يعيد العراق إلى الوراء ولو خطوة واحدة. بعد كل هذا يبدو أن الوعي السياسي والوطني قد عاد للسُنَّة العربية العراقية، فجاءت إلى مؤتمر القاهرة لكي تجني الثمار لشجر لم تزرعه للأسف الشديد، بل حاولت احراقه، وتلحق الموسم السياسي، حتى لا يدينها التاريخ السياسي العراقي.
فما هي الايجابيات في هذا البيان وما هي السلبيات؟

-2-
لنبدأ أولاً بالايجابيات حتى تهدأ النفس العراقية القلقة قليلاً ، وهي التي لم تهدأ منذ أكثر من عامين ونصف:
1- لا شك بأن جلوس هيئة علماء المسلمين وزعمائها من "الضواري" مع أركان النظام العراقي الجديد في مؤتمر سياسي كهذا هو تراجع كبير واصلاح قويم من هيئة علماء المسلمين للمفاهيم السياسية التي سادت لديها خلال العامين والنصف عام الماضية. وهذا الجلوس يقول كما قيل سابقاً وجوباً وواقعية سياسية مبصرة من أن الحوار السياسي وليس الحوار الدموي هو الطريق الأنجع لحل المشاكل وإزالة الخلافات، وتلافي الأسباب التي تؤجج الصراع الدموي. وهو ما لا يُرضي الكثيرين في داخل العراق وخارجه. فتنظيم "القاعدة" غير راضٍ عن هذا الجلوس. ويعتبره جلوس على خازوق أمريكي على مائدة الكفار. والبعثيون الارهابيون داخل العراق غير راضين عن هذا الحل المدني السلمي السياسي الذي يتعارض مع خطابهم وطبيعتهم الدموية منذ 1963 وإلى الآن. وبعض جيران العراق من ممولي وداعمي ومدربي الارهابيين غير راضين عن هذا اللقاء. وهم الذين بذلوا الغالي والرخيص في سبيل أن يبقى العراق فرناً نارياً دموياً متأججاً لا يهمد . والإعلام العربي النافخ في نار الارهاب في العراقي غير راض عن هذه النهاية، لكي يلوّن سطوره وشاشاته كل يوم بالدم العراقي وبالدموع العراقية، لكي يصبح حال الشعب العراقي عبرة لباقي الشعوب العربية التي تتمنى زوال أنظمتها السياسية بالطريقة نفسها التي زال فيها النظام العراقي البائد. وكان هذا الإعلام يتمنى أن لا يعقد هذه المؤتمر، وألا تتم المصالحة والوفاق العراقي ، حتى تقود الصدامات الدموية اليومية إلى حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر.

2- تعتبر نتائج هذا المؤتمر إدانة واضحة لأعمال الارهاب اليومية التي اجتاحت وتجتاح العراق. فاعتراف هذا المؤتمر بالتفرقة بين المقاومة والارهاب هو إدانة للارهاب بشكل واضح. وهو إدانة لما يُطلق عليه بالمقاومة كذلك. لأن لا احتلال في العراق لكي يُقاوم. رغم أن الأمم المتحدة أطلقت وصف "احتلال" على واقع الأمر العسكري الأجنبي في العراق. كما أن ادارة بوش أطلقت عليه كذلك وشاركتها في ذلك معظم وسائل الإعلام الغربي. إلا أن هذا التوصيف يبقى توصيفاً سياسياً غير دقيق طبقاً للحال العراقي. وقد سبق أن فنّدنا هذا في عدة مقالات. واعتبرنا أن ما في العراق هو "إحلال Supplantation " وليس "احتلالاً Colonization "؛ أي أن القوات الأجنبية جاءت بطلب وبقرار من المعارضة العراقية والنخب السياسية العراقية. وأنها جاءت لإحلال نظام ديمقراطي محلَّ نظام طاغٍ ومستبد. وأنها سترحل فور الطلب اليه بالرحيل من السلطة الشرعية العراقية. وهذه المبادئ لا تنطبق على الاحتلال، وإنما تخص حالة الإحلال، وهي من الحالات النادرة في التاريخ البشري السياسي. ومن هنا نفهم أن المؤتمر قد أدان الارهاب علانية وصراحة وأدان ما يُسمّى بالمقاومة كذلك، ولكن ضمنياً ومجازياً، حفاظاً على ماء وجه هيئة علماء المسلمين والضواري التي تسيطر عليها. وهذا ما عبرت عنه الفقرة الرابعة من البيان التي قالت: " مع أن المقاومة حق مشروع للشعوب كافة، بيد أن الإرهاب لا يُمثل مقاومة مشروعة، وعليه نُدين الإرهاب وأعمال العنف والقتل والخطف التي تستهدف المواطنين العراقيين والمؤسسات الإنسانية والمدنية والحكومية والثروة الوطنية ودور العبادة ونطالب بالتصدي له فوراً".

3- وجه هذا المؤتمر لطمة قوية لتنظيم "القاعدة" وإلى الإعلام العربي وصانعيه الذين يُكفّرون الشعب العراقي لاقدامه الجريء على الاقبال على صناديق الاقتراع الديمقراطي. وقال هذا البيان في الفقرة الخامسة بصراحة: " إدانة التكفير للشعب العراقي ، لأنه يتعارض مع تعاليم الإسلام السمحة التي تُحرم تكفير المسلم لأخيه المسلم، والعمل على إشاعة القيم الإسلامية التي تدعو إلى التآخي والتسامح وترسيخ الوحدة الوطنية". ومن المعروف أن فتاوى التكفير من قبل أشياخ العراق وأشياخ العرب خارج العراق، لم تتوان باصدار فتاوى التكفير لكل من يساهم في بناء العراق الجديد معنوياً ومادياً، سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. ولعلنا لن نسمع بعد يومنا هذا بمثل الفتاوى الفنتازية التي تُضحك وتُبكي، أكثر مما تُصلح وتبني.

4- أقرَّ هذا المؤتمر في مادته الثامنة احترام موقف جميع أطياف الشعب العراقي. أي احترام رأيه في وجود القوات الأجنبية إلى حين على أراضيه، حماية له من أعداء الداخل والخارج المتربصين به. كما أقرَّ هذا المؤتمر الدعوة إلى عدم إعاقة العملية السياسية والمشاركة الواسعة في الانتخابات المقبلة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع واحترام رأى الشعب العراقي في اختيار ممثليه. ولعل هذه المادة الثامنة في البيان الختامي المذكور هي من أهم مواد البيان. ففي هذه المادة يعترف المسلمون السُنَّة العراقيون اعترافاً صريحاً وشجاعاً بشرعية الانتخابات والاستفتاءات التي جرت، وعلى عكس ما كانوا يرددونه سابقاً في بياناتهم وخطاباتهم بأن الانتخابات التشريعية التي أجريت في يناير الماضية هي انتخابات غير شرعية وكذلك الاستفتاء على الدستور والانتخابات التشريعية التي ستجري في 15/12/2005. وبهذه المادة كسر المسلمون السُنَّة العراقيون سيف المقاطعة الخشبي المسوّس، الذي كان شاهراً في وجه الانتخابات والاستفتاءات السابقة واللاحقة. وهو مكسب سياسي كبير ولا شك للعهد العراقي الجديد، وللمسيرة الديمقراطية العراقية.

5- دعا بيان هذا المؤتمر العرب إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه العراق الجديد. ومثل هذه الدعوة معناها الاعتراف الكامل بالكيان السياسي للعراق الجديد. وهو ما كانت تحجم عنه وتترد فيه الدولة العربية القريبة والبعيدة من العراق. وقد تجلت هذه الدعوة في الغاء الديون المستحقة على العراق، والمساهمة في تدريب وتأهيل الكوادر العراقية في مختلف قطاعات الدولة، وتعزيز التواجد الدبلوماسي العربي في العراق مع توفير الحماية الأمنية اللازمة للبعثات الدبلوماسية العربية، وتقديم المساعدات الإنسانية، والقيام بدورٍ فعال في عملية إعادة الإعمار في العراق، والمساعدة في ضبط الحدود لمنع المتسللين.

-3-
تلك هي الايجابيات في البيان الختامي لمؤتمر الوفاق العراقي.
أما السلبيات فهي قليلة في رأيي المتواضع، رغم أن بعض الأخوة العراقيين عارضوا قيام مؤتمر الوفاق. وكنت أنا في عدة مناسبات ممن عارض انعقاد هذا المؤتمر، بحجة أن لا خلاف بين العراقيين. وأن التوافق قائم في العراق، بدون هذا المؤتمر، وبدون جهود الجامعة العربية وعمروها . وأن الشقاق في العراق قائم بين كافة أطياف الشعب العراقي من جهة، وبين فئة قليلة من السُنَّة العربية العراقية فقط. وقلنا كلنا بصوت واحد : مع من سيتم الوفاق؟
هل سيتم مع الخوارج الرافضين لكل مقومات الديمقراطية العراقية، والمهددين بالموت والاغتيال لكل من شارك ويشارك في أي انتخابات قادمة؟
فالشعب العراقي متوافق مع نفسه، ومع قيادته الجديدة، ومع دستوره، ومع مستقبله. والخوارج هم هذه الفئة القليلة من السُنَّة العراقية وفلول حزب البعث التي استعانت بالجوار، واستقوت بالديكتاتوريات، واستمدت منها قوتها. وهؤلاء لا يفهمون لغة غير لغة السيف والدم كما قال أخي الصدوق الدكتور عبد الخالق حسين (إيلاف، 23/11/2005). كما أعلن حسين كمال وكيل وزارة الداخلية العراقية لشؤون الاستخبارات أن الأعمال المسلحة التي تصاعدت طوال اليومين الماضيين تظهر أن ليس هناك حاجة لمحاورة من يقومون بمثل هذه الأعمال بل يجب كسر شوكتهم. فما هي سلبيات مؤتمر الوفاق العراقي في رأي البعض ؟

1- اعطى مؤتمر الوفاق اهمية سياسية كبرى لهيئة علماء المسلمين العراقية ولباقي تنظيمات السُنَّة العرابية العراقية، محاولاً تعويضهم سياسياً على ما فقدوه في الفترة السابقة. وكانت السُنَّة العربية العراقية هي التي افقدت نفسها مكاسب سياسية كثيرة، وعزلت نفسها برفضها لكل مراحل البناء السياسي العراقي الجديد. واليوم تعود السُنَّة العربية العراقية إلى الساحة السياسية العراقية كلاعب من اللاعبين بفضل مؤتمر الوفاق هذا. فلعل وعسى تستفيد السُنَّة العربية العراقية من دروس الماضي وتنخرط في العملية السياسية العراقية انخراطاً تاماً وتعيد السيوف الشاهرة في وجه الحداثة والتقدم إلى جرابها، لكي تبقى سيوفاً متحفية تعلق على جدران الصالونات التراثية، أو يتم الرقص بها.

2- كانت المادة الثانية من البيان الختامي لمؤتمر الوفاق العراقي بحاجة إلى توضيح أكثر، والتي تقول: " إن الشعب العراقي يتطلع إلى اليوم الذي يتم فيه خروج القوات الأجنبية من العراق وبناء قواته المسلحة والأمنية ويحظى فيه بالأمن والاستقرار، والتخلص من الإرهاب الذي يطال العراقيين والبنية التحتية العراقية ويُدمر الثروات الوطنية وأجهزة الدولة". فرغم أن هذه المادة قد ربطت بشكل غير مباشر بين انسحاب القوات الأجنبية وبين بناء الجيش والأمن العراقي كشرط لازم لانسحاب القوات الأجنبية، إلا أنها حاولت أن ترضي السُنَّة العربية العراقية عن طريق اعوجاج اللغة. وهذا مكر سياسي محمود فيما لو أدى في النهاية إلى الوفاق الحقيقي بين المتمردين على القانون من جهة والنظام والشرعية العراقية المنبثقة عن صناديق الاقتراع وليس عن صناديق الإتبّاع كما كان الحال في ماضي العراق.

-4-
إن العبرة في هذا المؤتمر ليست في قراراته، وليست في وعوده السياسية الجميلة الخلابة، وليست كونه خطوة نحو مؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي يزمع عقده في الأسبوع الأخير من شهر شباط/فبراير أو في الأول من مارس/آذار 2006 في بغداد. فقد شبع العرب من القرارات المؤتمرية وبشموا. المهم هو التطبيق الفعلي على الأرض. والسُنَّة العرب العراقيون يثبتون حسن نواياهم، وصدق أقوالهم، والتزام خطابهم، ووعي مستقبلهم، والحرص على عراقهم، بالكف عن تأييد الإرهاب داخل العراق. وبلجم هؤلاء الارهابيين لكي يتقوا الله في وطنهم، وشعبهم، ومستقبل أبنائهم. وسوف نُصدّق السُنَّة العربية العراقية عندما نلمس ونشاهد تقلصاً ملحوظاً في العمليات الارهابية، ثم نهاية الارهاب. وعندما نشاهد إلقاء القبض على الكثير من الارهابيين وسوقهم إلى العدالة. وعندما تتم مشاركة السُنَّة العربية العراقية في الانتخابات التشريعية القادمة في منتصف ديسمبر. وعندما نقتنع بأن السُنَّة العربية العراقية لم تعد حجر عثرة في طريق البناء السياسي العراقي الجديد. عندها، وعندها فقط نرفع قبعاتنا للسُنَّة العربية العراقية محيين، ونقول لها لقد أوفيتم بالعهد، والتزمتم بالعقد. وبدون ذلك، سوف تظل قرارات مؤتمر الوفاق بالقاهرة حبراً على ورق، كما هي قرارات العرب منذ ما يزيد على نصف قرن ونيف.

د. شاكر النابلسي
المصدر: إيلاف 1/12/2005