المهازل والخناجر في الأوضاع العراقية!


يمكن وصف الوضع العراقي اليوم بالمثل العراقي:" شليلة ورأسها ضائع"، أو "الدنيا خُربطْ مُربط"! أو "مليوصة" ـ أي الحابل بالنابل. وأعتقد أنه لا يوجد من يصف بدقة ونفاذ طبيعة الأنظمة أو الأوضاع العامة، كالأدب السياسي الساخر البارع حقا. مثلا لقد كتب الكثير جدا عن طبيعة النظام البعثي سواء في سوريا أو العراق، ونهجهما الشمولي، والممارسات القمعية، [ علما بأن وحشية النظام الصدامي كانت الذروة التي لم تبلغها سوريا]. أقول؛ كتب الكثير ولكنني أتذكر دوما قطعة ساخرة عن النظام الشمولي البعثي للكاتب السوري الساخر المتميز الصديق الراحل مصباح الغفري. كانت القطعة بعنوان "العطسة، ولا أعتقد أن مجموع مقالات تحليلية عن السلطات والممارسات الشمولية ذات أثر دائم في القراء كتلك "العطسة".
ففي ساعة معينة عطس القائد الأوحد [الضرورة] عطسة جعلت ديوان مكتبه يذيع في الحال بيانا يبشر الشعب بعطسة الرئيس، والتي دلت على سلامته وقوة إرادته وعبقرية قيادته للأمة نحو النصر الشامل. وسرعان ما انبرت الصحف وكل وسائل الإعلام لشرح وتحليل المغزى الثوري لعطسة القائد. أما أمانة العاصمة فقد أطلقت حالا على أهم ساحات العاصمة اسم "شارع العطسة". وعقدت أمانة الجامعة اجتماعا استثنائيا لتقدير ما سيكون للعسطة التاريخية من آثار إيجابية على قضية فلسطين والكفاح ضد الإمبريالية والصهيونية، واندفعت الجامعات بدورها لتخصيص كراسي عالية لدراسة أبعاد العطسة. ولكن الأهم أن مجلس الأمن القومي الأمريكي نفسه اجتمع هو الآخر وعلى عجل لتحليل مدى تأثير تلك العطسة على الاستراتيجيات الدولية وعلى موازين القوى في العالم!
هذا ما أتذكره من المقال لا حرفيا بل مضمونا.
أما عن الوضع العراقي الراهن وتوجهات الكتل والأحزاب والمليشيات فلدينا الكاتبان الساخران، جميل صالح واليوم شلش العراقي. الأسلوبان متقاربان؟؟ بموقع [ كتابات] العراقي، داعين لهما بالسلامة من مفخخات الزرقاوي والبعث ومن خناجر الصدر وسيوف بدر.
إن الأستاذ جميل صالح كان ينشر أولا بأول عن المظاهر الغوغائية والتسابق الطائفي ودور المليشيات. لقد نشر مرارا صورا لاستعراض جيش المهدي في مدينة الثورة، بملابسهم العسكرية وأقنعتهم فوصفهم بسخريته بفدائيي صدام، ولا عجب! فنصف ذلك الجيش كانوا من أولئك الفدائيين ثم لبسوا العمائم ووضعوا الشارات الخضر.
وتعليقا على البرنامج الانتخابي للقائمة الائتلافية نشر جميل صالح صيغته الخاصة لذلك البرنامج وكالتالي:
ـ الحجاب أولا!
ـ إلغاء قانون الأحوال المدنية لعام 1959.
ـ تبديل النشيد الوطني باللطميّة التالية: "جابر يا جابر مادريت بكربلا شصار"، بصوت عالم الذرة والمنوم المغناطيسي حسين الشهرستاني.
ـ إلغاء كافة العطل الرسمية واستبدالها بتواريخ وفيات الأئمة المعصومين والعشرة الأولى من محرم للتفرغ للّطم على الحسين ودك الزناجيل.
ـ إلغاء أكاديمية ومعهد الفنون الجميلة التي تعلم الناس الفسوق واستبدالها بكلية "الفنون الحميدة"، وتشمل المسرح لتخريج المشاركين في التشابيه السنوية، واستبدال قسم الغناء والموسيقى بقسم اللطميات والنواعي [من النعي والبكاء]. أما الرسم فسيكون مقتصرا على كل ما فوقه عمامة فقط.. باستثناء حجي بريج!
ـ الفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات والمعامل والحافلات.. الرجال على الميمنة والنساء على الميسرة.
ـ منع الأعراس والاحتفالات والرقص والموسيقى والغناء بناء على فتاوى السيستاني المرجع الروحي للقائمة.
ـ إعلان الوحدة الفورية مع إيران واندماجهما في وحدة إدارية وسياسية مشتركة تحت اسم [دولة عيران الإسلامية ]، عاصمتها السياسية قم، والتجارية النجف تطبيقا للمثل الفارسي "هًمْ زيارتْ هَم تجارتْ".
ـ إلغاء العمل بكل فقرة في الدستور [ يقصد الدستور المؤقت] أو لائحة حقوق الإنسان تتضارب مع فتاوى السيستاني، الممثل الشرعي والوحيد لدولة [عيران الإسلامية ـ فرع "عيراغ"".
أليس هذا كله مطبقا اليوم في البصرة والجنوب ومدينة الثورة ببغداد وفي معظم دوائر الدولة، ومعرض للفرض وبتعليمات رسمية في المدارس والجامعات؟ أليس هذا ما يعنيه كون أحكام الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع ولا يجوز سن تشريع يخالفها؟
نعم الدنيا "خربط مربط" لأن ما مر وجه واحد من اللوحة. ما يكمله هو نظام المحاصصة، ودويلات الطالبان التي سبق أن أقامها الزرقاويون في الفلوجة وحديثة والقائم، والتي سيفرضونها في أية بقعة عراقية يحتلونها مؤقتا. هناك أولا وطبعا، الخطر المتصاعد للإرهاب الوحشي وتدفق الإرهابيين من دول جامعة عمرو موسى، والتحالف بينهم وبين الصداميين، الذين يحلو للبعض وصفهم بالمقاومة "الشريفة"، دون أن نعلم ما هو برنامجهم وأهدافهم؟! [ أما عن التدخل الإيراني فقد كتبنا عنه لحد "الملل" كما ورد في تعليق بالإنجليزية لأحد المعلقين على مقالي الأخير.]
وأقول إنني مع كتابة كل مقال جديد، ثمة ما يدفعني لكتابته حتى ولو ردّدت فيه بعض ما ورد في مقالات سابقة، فالتكرار أحيانا ضروري ومفيد إن كان يخص أمورا عامة وخطيرة ينساها أو يتناساها الكثيرون.
هذه اللوحة "المشكّلة"، كالدستور المعتمد، تكاد بصورة تقريبية جدا تصور ملامح ومسار الديمقراطية بالنموذج أو الطراز العراقي. صحيح هناك انتخابات وحريات وتنظيمات حرة، ومحاكمات عادلة.
هذا كله جانب مشرق ونحظى به بفضل قوات التحالف من جهة، ومن جهة أخرى تحيات الشعب ومجموع القوى الوطنية واليوم بفضل حكمة وصفاء نظر عدد من القوى السياسية العلمانية الأساسية من عربية وكردية ومن القوميات الأخرى، ومواقفها التي منعت لحد اليوم اندلاع حروب طائفية أو عرقية.
هناك أيضا وفي الوقت نفسه نجد من قانونيين مخلصين يفسرون سيادة القانون والديمقراطية بالتساهل مع المتهمين بالإرهاب، هناك قضاة وحكام تحقيق يعتقدون أن النزاهة والشفافية واحترام حقوق المتهم تعني الضعف أمام كبار المجرمين والسماح لهم بإهانة المحكمة، والسيطرة على الجلسة كما تجلى مع الأسف في جلسة محاكمة صدام أمس مما جعل كاتبا يعلق بقوله: " صدام قاضيا والمحكمة في قفص الاتهام". ومعروف للجميع أن أي نوع من الإهانة تصدر من المتهم للحاكم تعاقب عليها قوانين الولايات المتحدة والدول الأخرى بالسجن ولو أياما. كما لا نعرف كيف تنطلي على المحكمة الموقرة مناورات المتهمين التي تؤدي إلى تطويل المحاكمة ربما سنوات أخرى؟ أو مناورات المحامين المعروف ولاؤهم لصدام، لطلب التأجيل كل مرة؟؟
ونعم، هناك انتخابات، ولكن هناك أشكالا جديدة من التدخل باسم الدين أو بإرهاب الناخبين والاعتداء على المرشحين كما جرى منذ أيام بالعدوان على مكتب الحزب الشيوعي في مدينة الثورة واغتيال كادرين له هناك على أيدي أوباش الصدر. وإذا كان أخونا الكاتب الساخر البارع الحاج شلش العراقي يكتب في قطعه الأخيرة الرائعة أن المرجعية الشيعية نفضت يدها من القائمة الائتلافية، فهو هنا لا يعلم أن السيد الحكيم صرح مرارا هذه الأيام أن المرجعية تدعم القائمة، وإن لم يكن ذلك رسميا كالمرة السابقة. كما أن المعلومات الأخيرة وبعضها نشر في موقع إيلاف، تخبرنا بأن ابن السيد السيستاني، السيد محمد رضا، [وهو في الحقيقة لولب المرجعية ومحورها ومحركها] قد جمع وكلاء المرجعية وطلب منهم الدعوة، بدون كتابة تعليمات وخطب عامة، إلى دعم الائتلافيين والتبشير لهم ولعدم التصويت للعلمانيين.
هذه هي الطبخة العراقية التي لم تتحول بعد لنظام معين متكامل. إنها تجربة لها خصوصيتها، كتجارب كل الشعوب التي مرت بظروف متقاربة، وإن لم تكن متقاربة، ومنها الدول الشيوعية السابقة والبوسنة وغيرها.
إذن، فكيف سيتبلور نهائيا نموذج الديمقراطية العراقية بعد الانتخابات؟
هذا ما سنخصص له المقال التالي تعقيبا على تحليل مهم للكاتب والبروفيسور الجامعي "روجيه أوين" نشره في مقاله بالهيرالد تريبيون بتاريخ 28 نوفمبر 2005 وبعنوان:
"المثال اللبناني... كيف سيكون عليه العراق؟"
أقول سأحاول تقديم وجهة نظر عمومية عارفا أن للكثيرين من المثقفين والساسة العراقيين وجهات نظر معاكسة أو بين بين، وهذا أمر طبيعي ومفيد، بشرط أن تكون المصالح العامة رائد الجميع بعيدا عن الحزازات والعقد وغلبة الانتماءات الضيقة على المسؤولية الوطنية المشتركة.

عزيز الحاج
29 نوفمبر 2005