"الجريمة والعقاب" بين مدرستين!
إن عمليات الإرهاب الوحشية في العراق، وعمليات العنف المسلح في الضواحي الفرنسية مؤخرا ، تثير عندي عددا من النقاط والأفكار. صحيح الوضعان مختلفان تماما، ويبقى أن ثمة ما يثيرانه معا من
التأمل.
منذ سقوط النظام الفاشي أتابع باستمرار من محطات التلفزيون والصحافة الدولية وقائع الجرائم الكبرى في العديد من الدول الغربية، وأتابع خاصة وثائق ال" أف. بي. آي" بهذا الصدد.
كان أكبر مجرم في التاريخ الأمريكي المعاصر هو آل كابون، المسؤول عن عشرات من عمليات القتل والتفجير والتهريب. وبرغم معرفة البوليس والقضاء بمسئوليته عن إصدار الأوامر بكل تلك
الجرائم، غير أن المحامين كانوا في كل محاكمة له يجدون ثغرة ما في سجل الاتهام لينفذوا منها للطعن والمطالبة بالإفراج عن المتهم. ولم تستطع الشرطة والقضاء وضع آل كابون في السجن إلا بعد
سنوات من جرائمه، ولكن ليس بتهم تلك الجرائم بل بجريمة التهرب من دفع الضرائب بأدلة موثقة. وقد حكم عليه بالسجن عشر سنوات كان يدير خلالها من السجن شبكات المافيا، حتى مات في السجن.
أما دماء الضحايا ومعاناة عائلاتهم فقد راحت هدرا بحرفية القانون وبراعة المحامين في اللعب بالوقائع. وقد شاهدت مساء أمس 21 نوفمبر 2005 من التلفزيون الفرنسي برنامجا طويلا عن محاكمة
صدام بشهادات عدد من محاميه العرب، فوجدت نموذجا صارخا لفن المغالطات القانونية واللباقة اللسانية التي تحرف الوقائع وتعتبر صدام حسين هو الحاكم الشرعي وهو الضحية! وأما قضاة العراق
فغير مؤهلين.
ومما له صلة بموضوع الجريمة والعقاب، فإن عشرات وعشرات من وقائع ووثائق البوليس والقضاء في فرنسا وأمريكا وغيرهما، تخبرنا عن إطلاق سراح مجرمين خطرين سبق الحكم عليهم بالمؤبد،
وذلك قبل انتهاء محكومياتهم، مرة بكفالة شخصية بعد سنوات من السجن، ومرة بحجة حسن السلوك في السجن. وتكون النتيجة أن معظم هؤلاء، من قتلة محترفين ومن مغتصبي الأعراض، يستغلون
الحرية لإعادة الكرة في الجريمة. وكان مجرم خطير جدا في أمريكا قد اقترف جرائم وحشية جدا حكم عليه بالإعدام، ولكن المحكمة العليا أبدلت الحكم بالمؤبد. ونقلوه لسجن غير محمي تماما ومسموح له
بمواجهة من يشاء وبالمكالمات الهاتفية. وقد استطاع الهرب بتواطؤ صديقة له وارتكب بعدئذ سلسلة أخرى من الجرائم أدت في النهاية لعودته للسجن.
صحيح هناك أيضا حالات برئ يسجن بلا ذنب وحتى قد يحكم عليه بالإعدام، ولكن تلك الحالات نادرة حسب متابعاتي. ومن الصدف المثيرة أن أحد العراقيين الثلاثة الذين فجروا أنفسهم في فنادق عمان
خلال العرس، كان من المعتقلين في العراق وأفرج عنه ضمن المئات من المفرج عنهم دون قضاء، ولكن بقرارات سياسية من لجنة أمريكية وعراقية مشتركة. وهذه الواقعة أذكرها بمناسبة مطالبة
مؤتمر الجامعة في القاهرة بالإفراج الفوري عن المعتقلين "الأبرياء" والمطالبة بوقف الاعتقال والمداهمة بغير أمر قضائي موثق. هذا صحيح ومطلوب كقاعدة عامة، ولكن ليس في حالات الطوارئ
ومخاطر الإرهاب. وسبق لامين الجامعة أن طالب بوقف العمليات العسكرية الأمريكية لمواجهة الإرهابيين القتلة المتسللين والصداميين الذين تلوثت أيدهم بدماء الآلاف من العراقيين سابقا ولاحقا، فضلا
عن تفجير المنشآت الاقتصادية والجوامع والخطف وقطع الرقاب وغيرها، من أبشع الجرائم. وقد ذكرنا مرارا التدابير الاستثنائية في بريطانيا بعد التفجيرات الإرهابية، وهذه هي فرنسا تتخذ إجراءات
مماثلة لمواجهة خطر الإرهاب الإسلامي المتصاعد وأعمال العنف الواسعة، والتي كان معظمها عنيفا وبالقنابل والبنادق.
إن التجارب الأمريكية والبريطانية والفرنسية في هذا الشأن جديرة بالتمعن والدراسة. ففي عهد رئاسة غيلياني لبلدية نيويورك، وهو من أصل إيطالي، اتخذ النهج التالي:" صفر من التسامح مع الجريمة."
كان بقول إنه إذا كسر مجرم نافذة دار في بيت أو مخزن فيجب أن تحل محلها نافذة جديدة، وإلا فسوف تتحول الجرائم تدريجيا لتدمير البيوت والمخازن وثم لسيطرة الجريمة على حي وشارع وهكذا
دواليك. ومفهوم "الجريمة " في القاموس الأمريكي تشمل من أبسط الجنح إلى أكبرها، وهو تفسير مخالف للتفسير الفرنسي الذي لا يعتبر من الجريمة غير القتل، التي هي في الإنجليزية Murder . كان
اليسار الفرنسي مشمئزا من هذا النهج وأطلقوا على غيلياني اسم " غيسوليني"، تذكيرا بموسوليني! وقد تغيرت الأحوال بعد 11 سبتمبر عند مواجهة الإرهاب، وحتى جريدة لوموند اليسارية، المعادية
لأمريكا حتى عشية تحرير فرنسا في الحرب الدولية الثانية، كتبت مرة أنه تقدر نهج "صفر للجريمة." واليوم فإن وزير الداخلية سركوزي يحظى بشعبية متناهية جراء تدابيره الحازمة في معالجة الشغب
المنظم جدا والذي راحت ضحيته عجوز مقعدة و8000 سيارة لمواطنات ومواطنين و200 مليون من اليورو من الخسائر المادية. وقد أيد 68 بالمائة قرار تمديد فترة حالة الطوارئ بينما عارضه
اليسار، ولكن معظم قواعد هذا اليسار هم أيضا أيدوا القرار بحسب الاستبيانات المنشورة. إن اليسار الفرنسي لم يتعلم من تجربة فشله الذريع في انتخابات 2002 بسبب إهمال القضية الأمنية وتبرير
الجنح والجرائم في الضواحي بكونها مجرد إفرازات للمجتمع الرأسمالي والظلم والعزل الاجتماعيين. ورغم أن فرنسا قد صرفت أموالا طائلة منذ الثمانينات على الضواحي واعتنت خاصة بالفرنسيين
المسلمين، [ نقطة ضوء: إن التنظيمات الإسلامية تسمي نفسها بالتنظيمات الإسلامية في فرنسا وليس بتنظيمات الفرنسيين المسلمين، وهو يعني العزل المقصود وعدم الاعتراف بمبدأ المواطنة]، حتى أن
أكثر من نصفهم يتلقون المعونات الاجتماعية، فإنها لم تحسن السياسة جراء عقليتها "الملائكية" في معالجة الجرائم ورفضها لمبدأ العقاب والاكتفاء بمبدأ "الوقاية". وإذا كانت الوقاية هامة جدا وضرورية،
فإن العقاب هو الآخر هام جدا وضروري من أجل العدالة وسيادة القانون واحترام الضحايا. وعندما يكون ثمة حريق، فإن الحاجة الفورية والمباشرة هي لإطفائه وليس ترك ذلك بحجة التأمل في
الأسباب وكيفية الوقاية. وهذا أيضا ينطبق على المرض إذ يجب علاجه مع اتخاذ الدولة لتدابير الوقاية.
إن معالجة الجرائم وفرض العقاب على المجرمين يجب أن يتما بمراعاة القانون، وتجنب أعمال التعسف والتعذيب والاعتقالات الاعتباطية، التي هي سنة الأنظمة المستبدة كما كان صدام، أو المليشيات
الطائفية كسجون الصدر في النجف والسجون السرية في بغداد اليوم. وحتى لو كان الضحية مجرما خطيرا وملوث اليدين بجرائم الكبيرة، فلا ينبغي أن يتم اعتقاله أو خطفه سرا وتعذيبه وثم قتله كما
جري مئات المرات في البصرة والجنوب وكما يجري في بغداد. وإنه لمن السخرية وما يثير الألم أيضا أن وزير حقوق الإنسان المحترم يقلل من هول السجون السرية المكتشفة ويقول لماذا لا يجري
التحقيق أولا في انتهاكات سجن أبي غريب! الوزير المبجل يخلط ويمارس المغالطة فانتهاكات أبي غريب لا تبرر انتهاكات هي أكبر؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن الإدارة الأمريكية هي التي
حققت، وثم كشفت للعيان انتهاكات ذلك العدد القليل من المجندات والمجندين الذين قاموا أعمال مشينة، ثم حاكموهم وحكموا عليهم. فأين هذا من انتهاكات تمارسها وزارات حكومية مطلوب منها قبل
غيرها احترام القانون والعدالة؟!
إن القصاص من مجرم حقيقي بطريقة غير شرعية قد يرضي الضحية، ولكن هذه الممارسة سلاح ذو حدين، وربما تتدخل فيها دوافع طائفية أو عرقية أو حزبية، وحتى دافع الثأر الشخصي. ونعلم أن
الممارسات غير القانونية كان من بعض عوامل تشجيعها هول جرائم البعث الصدامي، وثم عمليات إطلاق السراح بالجملة دون محاكمات. ونعلم في الوقت نفسه أن الدوافع الطائفية والعرقية والحزبية
كانت قوية عند اقتراف تلك الممارسات. ومن هنا، كان المطلوب تقوية دور القضاء والإسراع بالمحاكمات، مع إبقاء تدابير الطوارئ على أعلى الدرجات لأن العراق لا يزال في حالة شديدة الدقة
والخطورة. إن مطالبة دول الجامعة والدول الإقليمية الأخرى من العراق بتطبيق أكثر الإجراءات قانونية وديمقراطية مما يضطر الغرب نفسه لتعديلها في حالات استثنائية كما في فرنسا وبريطانيا، هو
منتهى المفارقة . فهذه الدول لا يطبق أكثرها قسطا صغيرا من هذه الإجراءات، كما أن بعضها يطبق سياسة القهر الديني والعرقي. ومن جهة أخرى إن فضيحة اكتشاف السجون السرية في بغداد، وهي
فظيعة حقا وتستحق تحقيقا دوليا، لا ينبغي أن تنسينا جرائم النظام السابق ومقابره الجماعية وحملات الأنفال والغازات والتهجير الجماعي.
تبقى نغمة "المقاومة " التي شرّعها بيان القاهرة أي اعتبرها عملا مشروعا.
ترى أية عمليات قتل وتفجير وخطف هي فعل إرهاب وأيها "مقاومة مشروعة"! أم المقصود مقاومة مسلحة لحكومة جاءت بانتخابات رغم كل التحفظ على أدائها السئ؟ طبعا المقصود هو عمليات
خطف وقتل وتفجير الجنود الأمريكيين وحلفائهم الذين جاءوا محررين ويقدمون يوميا تضحيات غالية. ولو كان هناك شعور بالاعتراف بالجميل لأقمنا لمن سقطوا من الجنود الأمريكان صرحا ما في
بغداد التي تم تحريرها بفضل تضحياتهم، رغم أن الصروح التذكارية أيضا صارت ضحايا للتطرف الديني والمذهبي وللحرامية! . لكن يظهر أن هناك عراقيين كثيرين نسوا ما تم يوم 9 نيسان وما
كان قبله! ثم ما هذا التكالب العربي والإقليمي الشرس وحمية هيئة العلماء وغيرهم، على جدولة الانسحاب مع أن ذلك مشروط ببناء للقوات العراقية، التي قال رامسفيلد عنها أول أمس إن 800 [ ثمانمائة
] منها فقط مؤهلون للتصدي لوحدهم للإرهابيين؟؟
الخلاصة: أن نعم للحزم القانوني العادل في التعامل مع المجرمين، والإرهابيين خاصة، ولا للتساهل والميوعة، ولا للقصاص غير القانوني الذي هو كما قلنا ضد سيادة القانون وسلاح ذو حدين ومفتوح
لكل الدوافع المريضة.
عزيز الحاج
في 22 نوفمبر 2005