في فرنسا أيضا: حكايات أخرى مختارة!!


ليست بحكايات خيالية، بل مجموعة من وقائع أبطالها أقلية من بين أبناء الهجرة معظمهم من أصول شمال إفريقية وأفارقة سود .
نفهم أن يغضب لكشف حقيقة ما جرى هذه الأيام في فرنسا الإسلاميون وعشاق العنف، والحاقدون على الغرب وحضارته، ولسبب أو آخر. وطبعا نفهم مواقف أصحاب قلانس التنسك! المدعوة بالدوارق، وهي كلمة فارسية بحسب الصحاح. أما أن يعتبر بعض اللبراليين التنويريين العرب كون هذه الأحداث "ثورة جياع"، فذلك أمر غير مفهوم. وكم كنت أتمنى لو أن الجميع المعنيين قرؤوا كتاب " حرب الشوارع، وكتاب "الإسلاميون هم فعلا بيننا"، وكتاب "الإسلام والجمهورية"، وأن يترجموهما للعربية من الفرنسية. وسبق لنا عرض العشرات من الوقائع والتقارير والأرقام الموثقة منذ التسعينات ولحد اليوم، عن الانتهاكات التي تقوم بها شراذم من شبان العرب المغاربيين وبعض الأفارقة من أبناء الهجرة، وكيف يسيئون للجاليات الإسلامية والإفريقية ولسمعتها، كما أساءت العمليات الإرهابية للقاعدة قبل
11 سبتمبر ولحد الآن. هذه الشراذم هي أقلية ولكن أعمالها في أوروبا تلحق أضرارا بليغة بالإسلام والمسلمين ناهيكم عن ترويع مواطنات ومواطني الدول المستضيفة.
شخصيا لا أعتقد أن هذه الجرائم وخلال أسبوعين كانت عفوية وخالية من البعد السياسي. صحيح أن معظم أبطال الانتهاكات تسيرهم نزعات العنف والاحتجاج على كل شئ. إن الشارع العربي المسلم في الغرب هو بغالبيته أسير إيديولوجيا ودعايات المتطرفين الإسلاميين. ونعرف كم لهم من أفكار خاطئة عن الوضع العراقي وتمجيدهم لما يعتبرونه "مقاومة وطنية". أما النخب الواعية فهي غير نشيطة، إلا أقلية متحركة بالفكر والقلم، ناهيكم عن أنه نادرا ما تلقى اهتمام وسائل الإعلام الغربية، كما أشرت في مقالي الأخير. ولو أخذنا البي.بي. سي. التي تسيرها عقليات يسارية معادية لبلير بشكل أعمى، لوجدنا أنها غالبا ما تستقبل للحديث عند وقوع أحداث إرهابية قاعدية أو الوضع العراقي، صحفيين عربا ممن يبررون الإرهاب الوحشي في العراق، ويمجدون صدام وبن لادن بأساليب مراوغة كمراوغات طارق رمضان في تمرير الدعاية الأصولية! وعند وقوع تفجيرات
11 سبتمبر خرجت في بعض الضواحي الفرنسية تحشدات فرح، لم تشر لها غير صحيفة واحدة، وتعمد الإعلام الفرنسي تجاهلها تحت عقلية أن ذلك سيعتبر تحريضا ضد العرب المسلمين جميعا.
إن منطقة سان سان ديني، وهي إحدى بؤرتي موجة العنف الأخيرة، مع كليشي، تضم بعض المساجد التي تجند إرهابيين إسلاميين. منهم من أرسلوا للشيشان وثم لأفغانستان، واليوم للعراق. هناك مثلا مسجد بلال الذي تسيره منظمة "تبليغ" المتطرفة، التي تسيطر على
163 مسجدا في فرنسا. وجامع عمر في ضاحية بيل فيل خاضع هو الآخر لهذه المنظمة، ووفقا لتقارير الأجهزة الأمنية الفرنسية ووقائع المحاكمات لتي جرت، فإن من بين الإرهابيين الذين كانوا يرتادون باستمرار هذا المسجد إبراهيم ياول السجين في غوانتيمالو وجمال الواسو الذي قتل في معارك أفغانستان، وويلي بريجيت الذي تحول للإسلام، وهو معتقل في أستراليا منذ 2003. ومنهم موسى كراوشة وعبد السلام بولانور من الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر. ومنهم عمر سيقي المتهم بمحاولة تنفيذ تفجيرات خلال السباق الدولي لكرة القدم عام 1998. وفي المسجد نفسه جند فؤاد علي صالح، الرأس المدبر لتفجيرات 1985 و1986 في فرنسا، [جريحا] المدعو فؤاد علي صالح [ 13 قتيلا و160 جريحا]، مغربيين في المسجد. لذلك تعتقد المخابرات الفرنسية أن مجموعة "تبليغ" يمكن أن تكون "الغرفة الخفية" للأصوليين المتطرفين في فرنسا. وآخر ما وقع في مسجد عمر مار الذكر حادث موت جزائري في الطابق الأرضي للمسجد. وبينت الوقائع أن 8 جزائريين كانوا قد قدموا من مسجد سان سان ديني قبيل العيد الفائت، وبحسب أقوالهم وجدوا الضحية في حالة هذيان وارتعاش، [الحقيقة حالة صرع]، فاعتقدوا كما قالوا بأنه مسكون بالشيطان. ولطرد الشيطان اللعين فقد أمسك به أحدهم من اليدين والثاني من رجليه وآخر وضع رجله على صدره والرابع أخذ برقبته فاختنق وتوفي. وكانت المحاكم من قبل قد حكمت على إمام جامع بتهمة خنق فتاة "تملكها الشيطان"، فأفرغ بالقوة في رئتها كمية كبيرة من الماء حتى فارقت الحياة.
وعدا المساجد المذكورة هناك مسجد الدعوة في شارع طنجة بباريس، وكان إمامه لعربي كشاط، وهو أيضا متهم بكونه مأوى للتطرف الأصولي. ويسيطر الاتحاد العام للتنظيمات الإسلامية الفرنسية، وهو تجمع إخواني، على عدد أكبر من عدد مساجد تبليغ. وهذا الاتحاد هو أقوى التنظيمات الإسلامية في فرنسا وهو الذي قاد حملات مقاومة قانون العلمانية في عام
2002.
إن عددا من المسجد في فرنسا تؤثر سلبا على الشباب المغاربي، ومن العائلات من تدفع أولادها عن عمد لأحضان الأصولية لكي يتركوا المخدرات والسرقات كما يتصورون!
وهناك أيضا عامل التربية العائلية المتخلفة. فعائلات عربية وإفريقية تترك أولادها الصغار للشارع بلا رقيب. وفي إحصاءات عام
1998 كان 350 صبيا في سان ديني في أعمار بين 12 و16 سنة يتركون المدرسة أو يرسبون. ومن بين المتورطين في الجنح والجرائم كان 250 منهم أقل من 16 سنة، وكان قانون العقوبات لا يجيز سجن من هم أقل من 16 عاما. وثبت في الأحداث الأخيرة أن عددا كبيرا من صغار الصبية متورطون في سرقة البنزين وصنع قنابل مولوتوف ورميها ليلا على المدارس والسيارات والشرطة. ومع الإجراءات الحازمة الجديدة، فقد اعتقلت الشرطة عددا من هؤلاء واستدعت آباءهم واتهمتهم بإهمال التربية وغرموهم مبالغ مقابل إطلاق سراح الصغار. وقال فرنسي في أحد شوارع سان ديني " على الوالدين أن يسألا أين أولادهم عندما تجري الحرائق على مقربة." فعائلات كثيرة تترك الصغار يفعلون ما يشاءون في ساعات متأخرة من الليل.
وفي مدارس بعض الضواحي كان التلاميذ المنحرفون يعتدون على زملائهم ويشتمون المدرسات بأقذع الشتائم النابية، ويخربون أجهزة وأثاثا مدرسيا. وقد ترك تلك المدارس عشرات من اليهود ومن المبرزين مدرسيا هربا من العدوان المتكرر عليهم. وروى الطالب الإسباني ماتيو آراس للمؤلف جيلين عام
1998 قصة أجواء المعهد الثانوي المهني الذي كان يدرس فيه في ستراسبورغ. وهذه المدينة من المناطق الملتهبة كل عام، وفي كل عام يحرق الجانحون وعصابات الفتوّات عشرات من السيارات. وستراسبورغ هي التي دبر جزائريون عام 2000 تفجير كنيستها وسوقها المركزيين، لولا اعتقالهم في حينه وسجنهم.
يقول ماتيو، وقد أجاز نشر اسمه الصريح، بأن في ذلك المعهد فرعين تقنيا ومهنيا. وكان عدد كبير من طلبة المهني من المغاربيين الذين كانوا يمارسون الاعتداء الجسدي واللفظي ضد طلبة التكنولوجيا. كانوا يصرخون بالطالب المتفوق " سنفعل بك كذا وكذا. ملعونة فرنسا." وأضاف:
" كان المحيط الدراسي الذي عشت فيه صعبا جدا برغم جهود عدد من الأساتذة. كان صعبا التقدم والتعلم في ذلك الجو. فأية حرية لمن يجب أن يحسب ألف حساب لما يقوله ولحركاته؟!" وقال إن الجو كان مليئا بالكراهية والحسد وعدم التسامح الأعمى والعنصرية ضد الفرنسيين، وإنه اضطر لكشف أصله الإسباني [كان فرنسيا من أصل إسباني]، فسلم من دعاة العنف وقالوا له:" أنت ابن عمنا." كان التلاميذ هناك يحترمون من لا يحترم أحدا، ومن يبدو الأكثر خطرا، ويعتدون على المتفوق في التكنولوجيا، وخصوصا إن كان من عائلة ميسورة، ويصرخون بغضب" يا عاهرات فرنسا! أيها الأغبياء القذرون! أيها الأضحوكات." ويتبين من إحصاءات
1996 و1997 أن حوادث اعتداء بالكلام كانت تحدث في 34 بالمائة من الثانويات و56 بالمائة من المعاهد الفنية و60 بالمائة من المدارس المتوسطة. وحوادث الاعتداء الجسدي كانت 34 و54 و47 على التوالي، وحوادث إشعال الحرائق 4 و6 و6 بالمائة على التوالي، وإتلاف في المدارس 18و26 و33 على التوالي، والسرقات ومحاولات السرقة 37 و46 و38 بالمائة، وتهريب المخدرات 4 و2 و2 بالمائة، واستخدام الأسلحة الجارحة 5 و13 و15 بالمائة على التوالي، واستعمال السلاح الناري 1 و2 و2 بالمائة، والقنابل المسيلة للدموع 3 و7 و5 بالمائة.
في جميع تلك الحالات كانت النسبة الغالبة من الجانحين هم من الفئات مارة الذكر. واستفحلت الظاهرة نتيجة تخلي المدرسة والقضاء والدولة عن واجباتها كما مر في المقال السابق. وفي سان ديني أيضا في
1997 كان تلاميذ مدرسة متوسطة ذات الأغلبية الإفريقية والجزائرية متورطين في عشرات من حوادث إشعال الحرائق. كما كثرت حوادث مصادمات بين عصابات المراهقين وتصفية الحسابات بينهم والاعتداءات الجسدية.
وماذا بعد من هذه الوقائع الحقيقية؟ في عشية الأحداث اندلعت مجددا قصة مأساة الشابة الجزائرية ذات
17 سنة، سهان بينزيان. هذه الشابة غضب عليها شاب جزائري بعمر 19 سنة قبل ثلاث سنوات لكونها رفضته، فصب عليها البنزين في الشارع وأحرقها حية أمام أطفال مجمع سكني في ساحة بلزاك بضاحية فيتري. سير. سين، وهي من الضواحي المشتعلة. في حينه وضعت البلدية وممثلو المساكن العامة لوحة حديدية على الموضع المعشب حيث تمرغت الضحية لكي تنجو من النار. كتبوا على اللوحة اسمها وتاريخ الميلاد والوفاة. في هذه السنة طالبت منظمة الدفاع عن الحقوق الدولية للمرأة بتجديد اللوحة والاستعاضة عنها بلوحة أنيقة مكتوب عليها: " في ذكرى سهان، التي أحرقت حية، من أجل أن يعيش الأولاد والبنات عيشة أفضل معا، في ظل المساواة والاحترام المتبادل ـ سهان بينزيان"
هنا قامت قيامة عدد من المنظمات الإسلامية المحلية ومعهم جمهرة من الناس ضد تلك العبارات وضغطوا على شقيقة الضحية لتتخذ الموقف نفسه. طالبوا من البلدية عدم الإشارة للحرق حية بزعم أن في ذلك إساءة لسكان الحي! وقال بعضهم صراحة: سهان كانت فتاة كغيرها وموتها كان مجرد حدث." رفض رئيس البلدية الشيوعي طلبهم الغريب مدعوما من المنظمة النسائية المذكورة. وقالت أستاذة الفلسفة في مدرسة الضحية إن سهان بطريقة قتلها كانت تعمل بصورة غير مباشرة من أجل حقوق المرأة وحقها في أن تقول "لا" للرجل".
هل من مزيد؟ مع الأسف، هناك الكثير من وقائع العنف والانتهاكات التي تسئ لسمعة المسلمين خاصة، وتغذي عوامل العنصرية ضدها. إنها التربية العائلية، ودور بعض أئمة الجوامع، وتقاعس الدولة والقضاء سابقا، مع ارتباط كل ذلك بظاهرة البطالة التي تشمل اليوم مليوني شخص معظمهم فرنسيون. إن من يدعي أن الفقر أو نبذ المجتمع هما السبب فلينظروا للإرهابيين الباكستانيين في لندن وكانوا من المتفوقين دراسيا وممن لهم أوضاع معيشية جيدة. كذلك لو أخذنا معظم قادة وكوادر الإرهاب الإسلامي لوجدناهم من الأساتذة والجامعيين والأطباء والمهندسين، وبعضهم أصحاب ملايين كابن لادن. وإنما هى الإيديولوجية المتطرفة والتكفيرية التي تؤثر بطريقة مباشرة او غير مباشرة على شرائح من أبناء الهجرة، والأكثر حاجة بوجه خاص، حيث يجري استغلالهم من جانب خلايا الإرهاب.
إن فضح هذه الأوضاع ليس إساءة للدين والمسلمين، كما يدعي بعض المعلقين بتوقيعات مستعارة؛ بل العكس صحيح، إذ يجب فضح حالات العنف ومرتكبي التجاوزات، وإدانة هذه الأعمال دفاعا عن سمعة العرب والمسلمين، مع استمرار مطالبة فرنسا وسائر الدول الغربية باتخاذ تدابير أخرى لتحسين أوضاع الجاليات الإسلامية والإفريقية.
كم كنت أتمنى لو أن الجاليات العربية والمسلمة في فرنسا قد بادرت لمظاهرة هادئة في شوارع باريس لإعلان استنكار ما حدث وإدانة المعتدين.

عزيز الحاج
10 نوفمبر 2005