سيادة القانون ضمان للعدالة والحرية والأمان..


الشغب العنيف والمنظم في الضواحي الباريسية المستمر منذ تسعة ليالي يعيد للأذهان كتاب "حرب الشوارع في فرنسا، الذي سبق لنا استعراضه في إيلاف.
في ذلك الكتاب الصادر بباريس عام
1999، قدم المؤلف مئات الوقائع والأرقام عن عواقب التساهل الحكومي مع جنح وجرائم مجموعات من أبناء المهاجرين. كان المؤلف " يقصد أقلية من الشباب من أعمار 15 ـ 29 سنة، وهم بوجه غالب من أبناء المهاجرين المغاربيين والأفارقة السود، وأكثرهم يحملون الجنسية الفرنسية، بل عدد كبير منهم مولودون في فرنسا. وخلال العقود الثلاثة التي مضت قبل صدور الكتاب، تراوحت الجنح والجرائم التي ارتكبوها من أعمال النشل والسرقات، إلى حرق سيارات، وقذف رجال الشرطة بكوكتيل مولوتوف، إلى الاعتداء على العجائز والشيوخ والمشردين، وإلى الاغتصاب. طفل عربي في العاشرة اعتاد تفجير إطارات السيارات وهو يتبجح بأنه محمي بالقانون الذي لا يسجن قاصرا. وقال المؤلف إن 5 بالمائة من الأعمار المذكورة كانت مسؤولة عن 50 بالمائة من الجنح والجرائم في فرنسا."
بين الكتاب دور تساهل الحكومات المتعاقبة في تطبيق القوانين، والدور السلبي بوجه خاص لليسار وأقصى اليسار، ومنظمات تقول إنها إنسانية ومعادية للسامية يسيطر على قيادات معظمها اليسار المتطرف، من جهة الاحتجاج على كل تدبير صارم لاحترام القانون، لحد اتهام وزير الداخلية الاشتراكي السابق شوفنمان بالانحراف نحو الفاشية لمجرد أنه اقترح اتخاذ تدابير معينة تجاه العائلات التي تترك أولادها في الشوارع ليقترفوا الجنح والجرائم بصورة متكررة. ورد المؤلف حجج عدد كبير من اليساريين ومن الباحثات والباحثين الاجتماعيين، بتفسير الجرائم بالفقر والتهميش. ومثلا عندما اختطفت مجموعة من الزعران مدرسة أطفال في مدينة نيس السياحية مروعين الأطفال، ونهبوا كل ما في الكانتين، انبرى العديد من الباحثات والباحثين الاجتماعيين وصحفيين يساريين للتخفيف والتلطيف بحجة أن المسؤولية تقع على المجتمع. كانوا يفسرون جنح وجرائم تلك الزمر من الشقاوات بكونها "تمردا عادلا ضد مجتمع الإقصاء". ولا نزال نسمع بعض اليساريين من صحفيين وباحثات وباحثين اجتماعيين بمناسبة أعمال الشغب الكبرى منذ أيام في إحدى الضواحي الباريسية، وحيث احترقت حتى الآن
500 سيارة من سيارات المواطنين وهم الضحايا، وألقيت قنابل مولوتوف على البوليس، واحتراق سائق حافلة في سيارته بعد الاعتداء عليه، واستخدم الزعران الرصاص ضد الشرطة وحيث صار معروفا أن القضية منظمة وليست عفوية. وكما يستخدم الإرهابيون في العراق حتى الأطفال المفخفخين، فإن عصابات الجريمة المتنافسة في الضواحي الباريسية تستخدم الأطفال الأبرياء. وقد اعتقل البوليس أمس طفلا في العاشرة وبيده زجاجة حارقة وسبب الأحداث وقوع شابين هناك ضحية تكهرب بعد هروبهما من البوليس فماتا. هنا هاجت الضاحية وماجت واضطر المسؤولون لاستقبل العائلتين والتهدئة. ولكن اليوم اتفق اليسار واليمين معا على وجوب فرض القانون والأمن في الضاحية قبل اتخاذ تدابير اجتماعية كما يطلب اليسار، ولكن اليسار وبعض الشيراكيين يطالبون برأس وزير الداخلية لكونه من دعاة الحزم لفرض القانون معتبرين إجراءاته قد ساهمت في الأحداث الجارية لحد الآن. ومعلوم وجود مشاكل اجتماعية كالبطالة في الضواحي ولكن معلوم أيضا أن في فرنسا مليوني عاطل وهم يتلقون معونات البطالة لحد أن الكثيرين منهم يستنكفون عن شغل أعمال تقترح عليهم ماداموا يتقاضون المخصصات براحة تامة! وفي الضاحية الملتهبة اليوم فإن أبناءها يتلقون جميع أشكال العون الاجتماعي السخي، وتبلغ ميزانية العلاج الصحي المجاني الشامل في الضاحية المذكورة ربع ميزانيتها. وثمة ضواحي في فرنسا شيدت فيها الدولة جميع وسائل الترفيه وساحات الرياضة ومباني سكن حديثة، ومع ذلك فإن العنف في بعضها يصل نسبة عالية. على كل لسنا نعالج هنا جذور العنف، فقد سبق لنا ذلك في استعراض الكتاب وكتابين آخرين هما "هوس كراهية أمريكا" وكتاب " الإسلاميون هم فعلا بيننا"، ودور الثقافة والمساجد والفضائيات عدا تبريرات اليسار. إن من يذهب لبعض الضواحي القريبة ذات الكثافة المغاربية الطاغية، يجد أن محطات التلفزيون في المخازن مفتوحة على فضائية الجزيرة، وإلا فعلى البرامج الدينية. ومعظم المسلمين في فرنسا يعتقدون أن عمليات الإرهاب في العراق ليست غير مقاومة وطنية ضد الكافر الأمريكي. ولا نعرف هل ذهل الشارع المغربي في فرنسا لإعلان الزرقاوي عن نية قتل رهينتين مغربيتين هما عاملان؟ هل ذهلوا كما ذهل الشارع المغربي في المغرب؟ وما أحسن ما كتبه الأستاذ الراشد اليوم، 5 نوفمبر، عن الموضوع في الشرق الأوسط، فاضحا الدور التضليلي والظلامي للفضائيات ولكثرة من الأقلام المغربية نفسها، لتشويه الوضع في العراق وطبيعة الإرهاب، وغاياته في تدمير الاستقرار، وعرقلة التقدم، ونشر الخوف العام، ومحاولة إشعال الحرب الطائفية. ولهذا أيضا لا نستغرب أن فرنسا صارت من البلدان الأوروبية التي تنظم فيها شبكات الإرهاب الإسلامي خلايا لإرسال المتطوعين للعراق. وقد قتل في العراق عدد منهم، وآخرون في السجون الفرنسية،ن وحملات الاعتقال مستمرة.
إن ما يتلقاه أبناء الضواحي في العائلة والجوامع والاتصالات اليومية ومن صحافة أقصى اليسار الفرنسي هو كونهم مهمشين، وهم يعتقدون أن المجتمع الفرنسي عنصري معاد للأفارقة والمسلمين. وفي هذه الأجواء تنشط شبكات الجريمة المنظمة، وتتحرك العصابات المتنافسة على حساب أمن عموم الموطنين. ولا ننسى أن سبب صعود اليمين المتطرف قبل انتخابات عام
2002 وقرب تسلمه للرئاسة كان مرده قبل كل شيء ردود فعل الفرنسيين على الانفلات الأمني ورخاوة الحكومات والأجهزة القضائية. أما المتطرفون الإسلاميون فهم يروجون لمقولة أن فرنسا من بلدان الكفر ولا ينبغي الخضوع لقوانينها. ونعرف ضجة الحجاب الصاخبة قبل سنوات قليلة.
لقد دفعت فرنسا غاليا ثمن الرخاوة في تطبيق القوانين، وعلى صعيد آخر في التراجع أمام الإسلاميين بجواز الحجاب في المدارس العامة حتى عام
2002، وفي أيام رئاسة ميتران الاشتراكي عقدت الحكومة مع كل من مصر والمغرب اتفاقيتين يعترف بعض بنودهما بالشريعة الإسلامية في بعض نواحي الزواج والإرث ووصية الميت وغيرها. كما دفعت بريطانيا ثمنا فادحا لتساهلها المفرط مع دعاة العنف والتطرف الإسلاميين في البلاد.
كل من البلدين تعلما كثيرا بعد
11 سبتمبر بقدر ما يتعلق الأمر بمواجهة خطر الإرهاب الإسلامي، ولكن الجدال حول مسؤولية الجريمة والإرهاب يظل مستمرا وتثيره صحف اليسار وأحزابها. وآخر مثال المقاومة البرلمانية القوية في فرنسا حين قدمت قانونا لوضع المعاصم الألكترونية في أيدي المجرمين الذين يكررون الاغتصاب بعد إطلاق سراحهم، سواء بعد انتهاء الحكم أو قبل ذلك بحجة حسن السلوك في السجن. وأخيرا اعتمد القرار بعد إدخال تعديلات عديدة عليه. كانت حجج المخالفين أن القانون المقترح يشكل اعتداء على الحريات الشخصية وحقوق الإنسان دون التفكير أولا في مآسي الضحايا. وحجج مماثلة تعكزت عليها المعارضة البريطانية من اليمين وداخل حزب العمال لمعارضة نية الحكومة في اتخاذ تدابير أمنية وقانونية صارمة في مواجهة خطر الإرهاب بعد عمليات لندن.
في عهد رئيس بلدية نيويورك السابق طبق مبدأ " كل جنحة، كل جريمة ولها عقاب." وكانت النتيجة تراجع نسبة الجرائم إلى اكثر من النصف في خلال عام. أما اليساريون الفرنسيون فقد حرفوا اسم الرجل وكان من أصول إيطالية ليصبح شبيها باسم موسوليني!
إن التجارب الدولية برهنت وبثمن باهظ على أنه متى تراخى القانون وتخلت السلطات العامة والقضائية عن واجبها في مكافحة الجرائم من أصغرها إلى الأكثر خطورة، فإن حريات المواطنين وحقوقهم وأمن البلد والمواطنين تصبح في خطر أكيد، بينما يستثمر المجرمون بشتى فصائلهم تلك الرخاوة لممارسة حريتهم هم في ارتكاب الجريمة.
وفي التجربة العراقية بعد صدام تجلى مدى ما كان من دور خطير لتساهل القوات الأمريكية مع عمليات النهب الواسعة بعد يوم من سقوط الفاشية العراقية، وكيف كان التساهل مع قتلة الخوئي مشجعا لمقتدى الصدر على تأسيس ميليشيته التي تواصل عمليات القتل والعدوان في الجنوب وحتى في بعض مناطق بغداد. كما أن إلغاء بريمر لعقوبة الإعدام كان بدوره خطأ فادحا في ظرف كان يتميز بتصاعد الإرهاب والجريمة. صحيح هناك نقاش قديم جديد في العالم عن حكم الإعدام، والمنظمات "الإنسانية" ودول الاتحاد الأوروبي تحظر الإعدام. ولكن الإعدام موجود في العديد من الولايات الأمريكية. ومؤخرا تم في باكستان تم إعدام متهمين بمحاولة اغتيال مشرف دون أن تقوم المظاهرات الاستنكارية من الصليب الأحمر وغيره ممن يواصلون التباكي على المعتقلين في العراق وغوانتينامو، لمجرد أن الأمر يمس الولايات المتحدة. إن مقترفي أبشع الجرائم كالقتل المتكرر والاغتصاب الدائم مع القتل وغيرها ينجون من أحكام الإعدام في أوروبا الغربية وكندا وهي دول ديمقراطية. أما عائلات الضحايا فإن مآسيهم لا تكاد تثير عواطف الكثيرين من هذه الأوساط. وبرغم كشف العشرات من مقابر صدام الجماعية فإن الصليب الأحمر لم يصدر استنكارا واحدا، بينما أقام ضجة كبرى مستمرة بكاء مرائيا على أوضاع المعتقلين العراقيين. والغريب، ونحن في أوضاع استثنائية لا أمن فيها، وإذ تتواصل عمليات الإرهاب، أن يرفع بعض الساسة العراقيين أصواتهم استنكارا لما يعتبرونه عمليات اعتقال أمريكية عشوائية في العراق، ويريدون أن يتم كل اعتقال بموجب أمر قضائي. والحال، وكما بينا في مقال سابق، فإن بريطانيا نفسها اتخذت إجراءات صارمة لمواجهة الإرهابيين، وأعطت للبوليس صلاحيات استثنائية، ولولا المعارضة اليسارية داخل حزب العمال ومعارضة المحافظين لأسباب سياسية وانتخابية لاتخذت الحكومة البريطانية تدابير أشد بما في ذلك تمديد فترة الاعتقال. وفي فرنسا أيضا تتواصل حملات اعتقال أعضاء في شبكات الإرهاب الإسلامي، وأعطيت الدوائر الأمنية صلاحيات جديدة.
إن النقد المطلوب هو لحملات إطلاق سراح المعتقلين بالجملة في العراق قبل أن تقول المحكمة قولها بعد التحقيق. والمطالبة بالعدالة لكبار المجرمين لا يعني التساهل معهم حيث يجب تقديمهم للقضاء مع الوثائق والبينات اللازمة. والمرضى من كبار مجرمي البعث المعتقلين يجب أن يعالجوا في أماكن اعتقالهم وضمان العلاج الناجع لهم، ولكن المرض لا يمحو صفحات الإجرام الكبرى المرتبطة بكل من هؤلاء.
إن سيادة القانون يجب سريانها على الجميع بلا استثناء، على صدام وشركاه، وعلى الإرهابيين المتلبسين بالجريمة، كما على قتلة الخوئي والسيد محمد باقر الحكيم، والمجرمين من شبكات المليشيات في البصرة والجنوب، من قتلة وخطافين ومعتدين على الجامعة وأمثالهم، ناهيكم عن مجرمي الحق العام.
إن التفكير في الضحايا وفي العدالة يجب أن لا يطغي عليه التفكير في حقوق المتهم بالجريمة أولا! ولا عدالة دون تطبيق القانون على الجميع، ولا ضمان للحرية ولخدمات المواطنين دون أمن ومع سيادة الجريمة والمجرمين بلا حساب عسير. أجل، يعالج المجرم في سجنه، والقتل العشوائي للمتهم بكونه كان بعثيا متهما في الشارع ومن ظهر القانون، مرفوض ومدان، ولكل معتقل حق الدفاع في محاكمة قانونية؛ ولكن أحكام القضاء بحق المجرمين يجب تنفيذها بلا تمييزن وحق المجرم لا يعني تدليله!!
أجل، إن مكافحة الجريمة والإرهاب تتطلب أيضا، وفي نفس الوقت، تدابير اجتماعية كمكافحة البطالة، تحسين الأحوال المعيشية، وتثقيفا وتعليما تنويريين، وإعلاما مسؤولا، لتسير السياستان جنبا لجنب. ومع الأسف فالوضع العراقي لا يزال متدهورا من النواحي الأمنية والخدماتية، وانتشار الفساد المالي، وسوء الأداء الحكومي، وهيمنة المليشيات المسلحة. كما لا يمكن مكافحة الإرهاب بجهود الحكومة وحدها، بل بجهود كل القوى الوطنية والاجتماعية والهيئات الدينية، مع أن دور الحكومة وأجهزتها هو الرئيسي. وقبل أيام نشرت صحف أمريكية لمراسلها من بغداد غرينواي مقالا هو تقرير مسح عن الحالة العراقية، وتحت عنوان " بغداد في المنزلق". ويعيد المقال ما نعرفه عن الخوف السائد، وانعدام الخدمات، وعن التدريب البطيء للقوات العراقية، فضلا عن أنه لا يجري تثقيف مناسب مع التدريب العسكري لها على أن يكون ولاؤها للدولة والشعب وليس لفئات ومذاهب وقوميات معينة. ونقول من جانبنا إن من حسن الحظ أن القوت الأمريكية موجودة هناك لفترة أخرى لتواصل عمليات التمشيط والتطهير ضد الإرهابيين البعثيين والزرقاويين، ومعها قوات عراقية جيدة التدريب رغم قلتها. لذلك لا نفهم لماذا يصر سياسيون وأحزاب عراقية على شعار رحيل هذه القوات فورا، إلا إذا كان في بالهم أن المليشيات المسلحة هي المعول عليها، أو ربما لمزايدات سياسية وكسب الأصوات الانتخابية كما يأملون!!

عزيز الحاج
5 نوفمبر 2005