ويستمر القتلُ والخطفُ المتعمّد للصابئة المندائيين !


على الرغم من أن التغييرات السياسية التي جاءت بعد نهاية وسقوط النظام السابق في نيسان من عام
2003 وما منحته من هامش محدود من الحريات المتاحة وسط فوضى كبيرة أملتها عملية التغيير السريعة و دخول القوات الأجنبية وتداعي مؤسسات الدولة ومحاولات إحياءها من جديد ، فإن الواقع الإجتماعي العراقي وبسبب الإرتباك السياسي الحاصل وتزايد العمليات الإرهابية وتدخل دول الجوار قد إزداد سوءاً وأصبح أكثر تعقيداً بمرور الوقت. فبالإضافة الى ما عانت منه العائلة العراقية من تمزق وتشتت في بنيتها جراء الحروب المدمرة للنظام المنهار والضحايا الأبرياء الذين سقطوا خلالها ، الى سياسات القمع والتشريد والتنكيل وفرض القوانين والتشريعات التعسفية بحق الإنسان العراقي من حين لآخر ، وما فرضته سنوات الحصار الدولي على العراق بعد غزوه للكويت وإضطرار أعداد هائلة من العراقيين من مختلف المكونات للهرب واللجوء القسري الى مختلف بقاع العالم وما تركه من آثار إجتماعية وإقتصادية خطيرة ، فإن الواقع الجديد للحالة الإجتماعية العراقية و المصحوب بعمليات القتل الجماعي الذي تمارس ضد مجموع أبناء الشعب العراقي من قبل المجموعات الإرهابية قد أصبح أكثر إيلاماً وأكثر عرضة للإنهيار بسبب عدم إستقرار الأوضاع السياسية وتضارب مصالح الفئات السياسية النافذة في الحكم والتي أخذت بُعداً طائفياً وقومياً وعشائرياً بدأ يهدد الكثير من المكونات الإجتماعية والدينية ومستقبل وجودها والتي كانت تأمل على أرض الواقع الجديد المعاش أن تأتي التغييرات السياسية بما يلبي طموحاتها للعيش جميعاً بسلام وطمأنينة تحت سيادة وسلطة القانون وحده لا غير .
وعلى الرغم من أن مسودة الدستور التي تم إقرارها وينتظر التصويت عليها خلال الفترة القريبة قد ضمنت ( حصانة ) محدودة لمختلف تلك المكونات الأثنية من خلال الإعتراف بوجودها وضمان حقوق ممارستها لطقوسها وشعائرها الدينية وتثبيت حقوقها المدنية ، فإن ما يجري من تقتيل وتصفيات جسدية وإغتصاب وإرهاب فكري وإجتماعي منظم ومستمر من حين لآخر من قبل أفراد أو مجموعات إرهابية بحق أبناء الديانات الأخرى ومنهم الصابئة المندائيين بحجة التكفير والخروج عن قواعد وثوابت الدين الإسلامي وعبر إجتهادات أو أعراف لا أساس لها في أيّ ٍ من نصوص الأسلام الحنيف ، يعيدنا الى نقطة الصفر ومن حيث ما عانت منه تلك المكونات أيام حكم السلاطين والولاة وفتاويهم تحت واجهة الدين وأيام سفاكي الدماء الذين غزوا العراق وحكموه قبل ولاية الدولة العثمانية وخلالها وما بعدها .
إن القتل والخطف المتعمد لأفراد تلك الفئة الإجتماعية العريقة أو غيرها وإلحاق الضرر الجسدي أو العقلي بهم أو إخضاعهم لأحوال إجتماعية ومعيشية معقدة بشكل جزئي أو كلي وإضطرارهم للهجرة الى خارج مناطق عيشهم و وطنهم ، تعتبر من أفعال الإبادة الجماعية كما جاء في المادة الثانية لمعاهدة الإبادة الجماعية لسنة
1948 والمادة السادسة للنظام الداخلي للمحكمة الجنائية الدولية . وإذا تم إعتماد وتطبيق هذه المعايير القانونية لتلك الجرائم التي ترتكب بحق هذه المجموعة الأثنية أو تلك ، نجد بأن هذه العمليات المجرمة تعتبر ممارسات إبادة جماعية ترتكب بقصد تحجيم و تقليص عدد أفراد الصابئة المندائيين في العراق أو فرض شروط إجتماعية قاسية عليهم تهيئ الظروف المناسبة لهجرتهم القسرية عن أرض الوطن وهو ما حاصل الآن للكثير من العائلات المندائية وتلك التي غادرت ولا تزال تغادرموطن أباءها وأجدادها منذ حضارة سومر العريقة ، مما يستدعي ملاحقة مرتكبي تلك الأعمال أو ممن يوفر الغطاء الشرعي لهم أو ممن يساهمون فيها بهذا الشكل أو ذاك عن طريق الترويج أو التمويل أو المساندة لها !
فها هي المدن السورية والأردنية على وجه التحديد تحتضن المئات من العائلات المندائية الهاربة من جحيم ما يجري في أرض الوطن دون أن تعرف مستقبلاً لها ولأبناءها المرغمين على ترك مقاعد دراستهم وصحبتهم لأصدقاءهم في المدارس ، لا بسبب العمليات الإرهابية الدموية اليومية وحسب ، بل بسبب عمليات القتل المنظم لأبناءها تحت مختلف الحجج وبسبب ما يفرض عليهم من مضايقات إجتماعية تمتد من إرغام الفتيات والنساء على إرتداء الحجاب وغيرها من الممارسات الكلامية النابية الى عمليات الترغيب والترهيب لترك ديانتهم الموَحّدة أو تصفيتهم جسدياً الى عمليات الإختطاف والإغتصاب للعديد من الفتيات والشابات المندائيات !
لقد عاش الصابئة المندائيين وغيرهم من أبناء المكونات الأخرى من أديان ومذاهب وعلى مرّ سنوات طوال من عمر الدولة العراقية الحديثة تحت رحمة القوانين المدنية والوضعية والإجتماعية السائدة والمناهضة في أغلب تشريعاتها لحقوق الإنسان العراقي ، يحدوهم الأمل عبر كل ما قدموه من خدمات وتضحيات مشهود لها في موطنهم الأصلي العراق بأن يجدوا في التغييرات السياسية الجديدة فرصة جديدة بأن يساهموا ودون تمييز أو إضطهاد أو تغييب ضدهم في بناء وتعزيز الوحدة الوطنية العراقية التي تتعرض للخطر والتمزق ، لا أن يكونوا ضحية لإجتهادات وتفسيرات متخلفة وغير حضارية لا تقرّها أي من تعاليم الأديان السماوية وغير السماوية ومفاصل ما جاءت به القوانين والمعاهدات الدولية التي تعني بحقوق الإنسان .

إن تشريع مواد الدستور وبغض النظر عما جاءت فيه من مضامين و وسط التهديدات المتعددة من داخل الوطن وخارجه لا تكفي لوحدها ، بل تستدعي من كل القيادات الدينية الفاعلة والواعية وبمختلف مذاهبها المعروفة ، وكذلك القيادات السياسية للأحزاب الأسلامية بالدرجة الأولى وغيرها .. أن تبادر وبما يمليه الوازع الديني والإنساني والحضاري الى محاربة الأفكار والمفاهيم والثقافات التكفيرية والعنصرية والطائفية والمروجين لها والتي تستهدف وجود ومستقبل أبناء المكونات الإثنية في العراق بالدرجة الأولى وإعلان ذلك صراحة ودون تردد في برامجها السياسية بعيداً عن الوعود والمجاملات والتصريحات التي نسمعها من الحين للآخر والتي لا تجد لها رصيداً و واقعاً لدى القواعد الشعبية لتلك الأحزاب وتجعل بعضها يتصرف بعنجهية مفرطة ومتخلفة ضد أبناء الديانات الأخرى الذين لا يملكون ما يدافعون به عن حياتهم وعرضهم ومالهم وسط غياب سلطة القانون ومؤسساته الشرعية ، وكذلك فإن الحال المعاش يتطلب ممن هو حريص فعلاً ، لا قولاً على وحدة الوطن السياسية والإجتماعية .. إزالة أي مظهر من مظاهر التوتر و الإرهاب الإجتماعي القائم في العديد من المحافظات العراقية والجنوبية منها على وجه التحديد ، والتي ستلحق الضررلاحقاً .. لا بالوطن ومستقبله وحسب ، بل لمن يروّج لمثل هذه الأعمال الإرهابية ويغذيها دون أي سند ديني أو أخلاقي أو قانوني وبعيداً عن ثقافة ومفهوم السلام والوئام الإجتماعي المنشود والمطلوب في الوقت الحالي أو أية مصلحة وطنية أخرى !

عبد الجبار السعودي
بصـرة – أهــوار في أكتوبـر
2005
basrahahwar@hotmail.com

المصدر: صوت العراق،
7/10/2005