من مسيرة كرنك لنتعلم درساً


قد يندهش الأصدقاء ألا أشارك في هذا السيل الذي لا ينقطع من مقالات عن المسودة الكارثية للدستور العراقي ، فهناك من ينكر عراقيتنا لمجرد أنني و 4 ملايين غيري مقيمون بخارج البلاد، بل و اعتبرني السادة القائمون على أمر العراق الجديد و حسب نص هذه المسودة فارسياً مقيماً بالعراق ، أي أنهم أصبحوا أشد قسوة علي من صدام الذي واصل ميراث الاقتتال الصفوي العثماني، و اعتبرني فقط من التبعية الإيرانية بما لا ينفي أنني كردي فيلي، فما الذي يدعوني لأكتب عن مآسي العراق بعد الآن ؟؟ .

أما لماذا كرنك ؛ فقد شعرت بخسارة عظيمة بوفاة هذا المناضل الذي قدم نموذجا فذا في إمكانية التعايش بين القوميات و الأديان المتعددة بل و الأعراق المختلفة ، ليضع مصلحة بلاده ككل صوب عينيه قبل اي انتماء آخر ، لكن القدر لم يكن رحيما به - و هل كان القدر يوما ما رحيما بأي من عظماء التاريخ ؟ إنه يختطفهم منا في اللحظة التي نحن بأشد الحاجة لبقائهم بجوارنا ليواصلون ما بدأوه من مسيرة ، لكن مهلا يا سادة ، هل علي أن أعيد العبارة الأخيرة ؟؟ فربما اعتبرها السادة الملالي الجدد و الروزخونية ممن يصوغون الآن دستور جمهورية العراق الطالبانية الحديثة تستوجب إقامة الحد علي باعتبارها تهجما على القدر و العياذ بالله ، و أنا لازال لدي بعض أمل في الحياة .

لقد تعرفت بالكثير من الأخوة السودانيين بالصومال أثناء عملي في القارة الافريقية لنحو ثلاثة عقود ثلثها تقريبا في القرن الافريقي و كان لي العديد من الزيارات للسودان خلال هذه الفترة فتعرفت اكثر على هذا الشعب، و عمل معي عدد كبير منهم كمتطوعين بالأمم المتحدة ، و منهم العديد من الجنوبيين ، و كانوا يشبهوننا نحن الأكراد – بما فيهم نحن الفرس من الكرد الشيعة – المعروفين سابقا باسم الكرد الفيلية، فبالإضافة لحبهم الشديد للبامية ، فهم يقتربون منا في سرعة انفعالاتهم و سرعة نسيانهم للإساءة ، يغضبون سريعا لكنهم يحملون قلوبا رقيقة طيبة تغفر ايضا سريعاً، عرفت في الشعب السوداني حب القراءة و احترام الاختلاف في الرأي ، و بالطبع عدم التمييز على أساس الاختلاف في اللون و العرق و العقيدة فهذا أمر مفروغ منه، ففي السودان عشرات الأعراق و القبائل و اللهجات و اللغات و الأديان و المذاهب الصوفية، و في الجنوب ذاته هناك قبائل كبرى قوية كالشلك و النوير و الدينكا – و الأخيرة جاء منها كرنك وتحديدا من دينكا بور،لكنه لم يحاب أبناءها على حساب غيرهم، و كان حقا قائدا لكل السودان تتعدى أطروحاته التفكير الضيق في مصلحة فئة دون أخرى .

و نادراً ما تتكرر مثل هذه الشخصيات بالتاريخ ، لذا فمصاب السودانيين كبير ، و الحقيقة أنه مصاب معظم دول افريقية المليئة بالحروب و الصراعات القومية و العرقية، لأنه لو نجح في تطبيق أفكاره لقدم نموذجا جيدا للتعايش و السلام رغم الاختلاف في اللون و العرق و الدين و اللغة الخ و نصيب السودان من الحزن هو الأكبر لأن كرنك كان لديه أفكار عديدة تتعلق بالتنمية و هو حاصل على شهادة الدكتوراة من الولايات المتحدة حول قناة جونقلي و التنمية ، و هو المشروع الذي كان بوسعه لو اكمل ان يغير الكثير في لاقتصاد السوداني بل و جعل هذا البلد حقا سلة الغذاء للقارة الافريقية .

و امتلك الرجل مصداقية في طرحه المتسامح و الشامل لكل السودان مما جعل شعبيته في الشمال لا تقل بأي حال عنها بين أبناء قبيلته أو جلدته بالجنوب ، و رغم أن حركته ولدت في ظروف الاستقطاب الدولي بين المعسكر الشرقي و الغربي ، و رغم أن السودان يحيط به 9 بلدان لكل أهدافها و توجهاتها فقد كان كرنك حريصا على ألا تؤثر هذه المعطيات الدولية و الإقليمية على نقاء برنامجه و مسيرة نضاله، وهو لم يتخل يوما عن رغبته في إقامة دولة حديثة علمانية و كان يرى في ذلك الحل الأفضل لبلد بها انتماءات دينية مختلفة و من بين أبنائها من يدين بغير الديانات السماوية، لقد كان بوسع قرنق أن يوصل النموذج لتعايش القليات المختلفة لستفيد منه الكثير من دول العالم العربي و العالم الثالث ففيه الكثير من مشاكل الأقليات التي تشبه براكين من نار تنتظر الاشارة للفوران .

لم يقم كرنك بعلاقة استراتيجية دائمة مع دولة تجعله يتحرك وفق هواها ، بل جعل بلده السودان رقم واحد في أجندته ، و واصل طريقه صوب السلام رغم أن المنطقة كلها تتجه نحو القلاقل و الحروب ،لأنه أدرك أن أقصى ما يمكنه الحصول عليه في ساحة الحرب قد أخذه بالفعل ، و لأنه حريص على إيقاف نزيف الدم من أبناء الشمال و الجنوب معا و لعل ذلك يظهر واضحا في خطابه يوم تولى منصب نائب رئيس الجمهورية و حاكم اقليم الجنوب إذ انه حيا أرواح الشهداء من الطرفين .

فسلاما عليك يا كرنك و كل دعوانا لأهله بالسودان أن يتجنبوا الفتنة التي حاربها الرجل طوال تاريخه، فهذا أبسط ما يقدمونه لذكراه

و من عجائب القدر أن يصادف وفاة هذا الزعيم الفذ وفاة الملك السعودي فهد بن عبد العزيز فيترك كثير الناس و الكتاب الحدث الأهم و الفارق في تاريخ الطقة ليركزوا على مقالات العزاء و ما أكثر من يجيدها ببراعة في عالمنا الثالث ، و بذلك يكون كرنك قد ظلم في حياته و حتى في يوم مماته إذ طغى الاهتمام بموت فهد على خبر رحيل الزعيم كرنك ، و كنت أود و لو أن اقتراح متأخر زمنيا ان تنكس الاعلام الكردية على هذا الزعيم لأنه الأقرب لنا ككرد و عراقيين باعتباره حاول تقديم نموذج حتذى للتعايش بين قوميات و اديان في دولة واحدة ، و لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فاقترح أن يسمى شارع باسمه باي من مدن كردستان العراق و لتكن عاصمة اقليم كردستان العراق اربيل، رحم الله الرجل الذي لم يمهله القدر كثيرا ليستريح من نضال السنين التي قضاها محاربا لأجل قضية عادلة و أملي أن يعود آلاف الجنوبيين الذين أراهم في القاهرة للسودان قريبا ليسهموا بالدور المنوط بهم في إعمار و تنمية بلادهم و العيش في رغد السودان الآمن من الفتنة و الحروب بإذنه تعالى؛ فالأوطان لا تستقر و لا تبنى إلا بسواعد أبنائها أولاً .


د. طالب مراد
Talibelam@hotmail.com