مخاض كتابة الدستور العراقي

د. علي الدباغ

نحسب ان كتابة الدستورالمقترح في العراق ستعطي العراقيين شعوراً قوياً بالانتماء لوطن وبلد ونظام سياسي يصنعونه هم بأنفسهم، ويخلق عندهم تفاعلا مع المستقبل بعد عقود من إقصائهم عن المشاركة في صنع أو حتى المشاركة في صياغة الوضع السياسي لبلدهم ومستقبل حياتهم، بل كان السائد هو حكم الفرد بنظام شمولي مركزي إلى اقصى حدوده، ما أدخل العراق في حروب عديدة أحرقت البلاد ودمرت الانسان العراقي وانتماءه وتفاعله مع نظام قمعي دموي، مارس قتلاً منظما لشعبه لم يشهده تاريخ العراق المليء برائحة الدم أصلا.

لا شك أن مخاض كتابة مسودة الدستور يمثل تحديا واضحاً لإرادة الاغلبية التي طحنها موت جماعي وإبادة بالجملة، وموت بالغازات السامة، وبين مجموعة كانت تمتلك مفاتيح الامر وزمام السلطة وفقدتها بين ليلة وضحاها، على صوت أزيز الدبابات الغازية التي هربت أمامها، وتوارت في حفر وملاجئ وبلدان مجاورة، وعادت تجرب حظها ثانية في أن تتوفر لها الفرصة لتنقض على السلطة، بذات الاساليب التي مارستها من قتل جماعي، لكن هذه المرة بآليات ووسائل مختلفة.

ولكن صراع الإرادات هذا لن ينتهي بكتابة الدستور والتصويت عليه، بل سيستمر لفترة ليست قصيرة بالتأكيد تطول وتقصر اعتمادا على اقتناع هذه المجموعة الاخيرة بأن هناك حقيقة وواقعا على الارض قد بدأ فعله، وأن الزمن قد دار، وان هناك تاريخاً جديداً سيكتب لهذا البلد، ولن تكون هناك فرصة لان يعود الزمن للوراء . هذا الفهم وهذا الواقع لا بد للاخوة الجدد من السنة العرب الذين انضموا معنا في كتابة الدستور أن يقبلوه برضا وطيب خاطر، ورغبة في أن يتشارك الجميع في بناء البيت العراقي الذي يحوينا جميعاً ، ونعيش تحت سقفه بالتساوي، وأن يأخذ الجميع فرصتهم المتكافئة لان يديروا هذا البلد عبر صندوق الاقتراع وليس عبر الانقلاب العسكري. لا بد أن يفهم الجميع بأنه لا احد يقرر عن الآخرين بأنه يمنح حقاً أو يمنع حقاً فهذا العهد مضى وأنتهى، ولا يمكن أن يرضى الآخرون بأن يتسلط عليهم من جديد شخص أو مجموعة حتى لو صبغت الارض بلون الدم.

والثانية هي أنه لا يزايد أحد بأنه يريد أن يحفظ العراق ويحتكر ويدعي بأنه هو حامي وحدة العراق ، لان ذلك يشكل جرحاً لمشاعر الآخرين الذين قدموا دماء بدون مقابل لوحدة هذا العراق، ويشهد تاريخ العراق الحديث فضلا عن القديم بأمثلة يعرفها الجميع لا مجال لذكرها هنا.

والثالثة، إن شكل النظام القادم وتوزيع السلطة فيه ينطلق من ثابتة أرى من الضروري توضيحها، وهي أن تركيز السلطة والثروة بيد حكومة مركزية قوية سيفتح شهية البعض من الذين يتربصون الفرص لان يقفزوا على العاصمة ويستولوا على مقاليد الامر ويرجعوا العراق لعهود الحجاج وصدام حسين، لذلك فكرنا أن نجزئ السلطة ونوزعها، وإني أرى أن من الضروري هنا اختصارهما بأمرين مهمين:

الأول: أن لا نعطي فرصة لانقلاب ناجح، لان المركز ضعيف ولا توجد به كل مفاتيح القوة والثروة، وبالتالي سيرجع ذلك الانقلاب حسيراً خاسئاً خالي الوفاض .

الثاني: سيتمكن العدد الاكبر من العراقيين في المشاركة في إدارة مناطقهم وأقاليمهم عبر نظام لا مركزي، يوفر قاعدة مشاركة، وليس قمة سلطة، وأحسب ان الرفض المتوالي للمشاركة في العملية السياسية لن يحصد ثمراً ، بل سيخلق شعوراً عاما بدأ يتنامى، مفاده بأن الغالبية المسحوقة لا يمكن ان تبقى تحت رحمة مجموعة صغيرة ، تريد ان توقف عجلة الزمن. وبالتالي فإن وحدة العراق ستكون في الميزان بحسب هذه المزايدة الكاذبة على حفظ وحدة العراق.

إن كتابة مسودة الدستور وإقراره ستكون محطة سيذكرها التاريخ ، وسيذكر قوة وتصميم وعزم مجموعة شجاعة تريد أن تصمم قانوناً أعلى، يمثل أرفع عقد ينظم حياة العراقيين في الرغبة تجاه بلد آمن ومسالم ، يريد أن يحيا ويدع الآخرين أن يشاركوه نعمة الامن والأمان والسلام.

* عضو لجنة كتابة الدستور
ali@aldabbgh.com
جريدة الشرق الاوسط، 4/8/2005