لغز اغتيال شيوعي عراقي في بيروت

حسن ناصر باجلان
PUKmedia
29/7/2005

في خريف عام
1980، بينما كنت في إحدى ألمواقع ألعسكرية بجنوب لبنان، قرأت في جريدة ألسفير خبرا مفاده ، إن تحسين علي ألشيخ ألملقب ب(يحيى ألعراقي )، قد اغتيل من قبل مجهولين في منطقة كورنيش ألمزرعة . وفي ذيل ألخبر كان هناك بعض ألبيانات تفيد بأن ألفقيد كان مناضلا في حركة فتح ، بالإضافة إلى تزعمه لمجموعة عراقية معارضة تطلق على نفسها (تنظيم ألشيوعيين ألثوريين ألعراقيين )، وكان الشهيد يشرف بنفسه على إصدار جريدة دورية ناطقة باسم ألتنظيم .

كنت أعرف ألشهيد معرفة سطحية عن طريق عراقي أخر كان أسمه ألحركي (أبو ألعلا )ويعمل في صفوف ألجبهة ألديمقراطية لتحرير فلسطين ، وكان متزوجاًً من سيدة لبنانية من قرية ألرفيد بالبقاع الغربي .

عرفت منه بان يحيى ألعراقي هو من ألكرد ألفيليين وكان يمارس نشاطه ألسياسي المعارض لنظام البعث من بيروت منذ أواسط ألسبعينات ، حيث أنه كان يقود تنظيم شيوعي أنشق من ألحزب ألشيوعي العراقي ألذي تحالف في جبهة وطنية مع البعث عام
1973. وكان تنظيم الشيوعيين الثوريين العراقيين أحد ألفروع ألتي انشقت من ألحزب ألشيوعي ألعراقي - القيادة ألمركزية أو كما كنا نطلق عليهم جماعة عزيز الحاج . ويبدوا إن التنظيم كان مدعوما من فتح ومن قبل أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح ماجد أبو شرار ألذي اغتيل في روما بعد ذلك بسنة أي في شتاء عام 1981. ماجد أبو شرار كان معروفا بتعاطفه مع الشيوعيين العراقيين ، وكان قد وظف الكثيرين منهم في أجهزة إعلام منظمة التحرير الذي كان يشرف عليها ، ويقال إن لخالد العراقي - نائب رئيس تحرير فلسطين الثورة حينئذ والذي اغتيل هو الأخر في نفس العام دوراًً في تأسيس تلك ألتنظيم ألشيوعي ألذي بدأ باستقطاب أعداد كبيرة من أعضاء الحزب ألشيوعي العراقي - أللجنة ألمركزية ، بعد فشل تجربة ألاخير مع البعث وانفراط عقد ألجبهة ألوطنية في منتصف عام 1979 .

ويبدوا إن مسلسل اغتيال ألمناضلين ألثلاث خالد العراقي ويحي ألعراقي وماجد أبو شرار ، كانت مرتبطة مع بعضها بشكل أو بأخر ولو أن فتح أتهم ألمخابرات ألإسرائيلية حينها باغتيال ألأول والثاني ، لكونهم كانوا يشغلون مواقع قيادية في منظمة ألتحرير ألفلسطينية ، ولكن قصة اغتيال ألشهيد تحسين أخذت مسارا أخر واتهمت فتح بشكل غير رسمي ألمخابرات العراقية بتدبير أغتيالة و اتهمت أحد ألعراقيين والذي كان أسمه ألحركي (نظمي ) بأنه ألشخص ألذي نفذ عملية ألاغتيال .وتم اعتقال نظمي من قبل أجهزة ألمخابرات الفلسطينية ، ولقد شأت الصدف أن التقي معه في السجن في بيروت لفترة قصيرة وأصبحنا أصدقاء بعد أن تيقنت من براءته ، وعندما أطلق سراحه بعدما اكُتشف ألقتلة ألحقيقيين ، جاء ني إلى بيتي وسكن معي وأصبحنا أصدقاء لا نفارق بعضنا ألبعض إلى أن خرجنا من بيروت بعد حصارها ألشهير عام
1982 ، ذهب نظمي إلى سوريا ورحلت أنا إلى الجزائر وانقطعت سبل التواصل بيننا إلى يومنا هذا .

نظمي ، بالأصل كان يعمل مدرساًً في ثانوية الصناعة بناحية القاسم – محافظة ألحلة ، دفعة أعجابة بوديع حداد وغسان كنفاني للانضمام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – تنظيم العراق ، وكان يسافر أثناء العطلة الصيفية إلى لبنان لاكتساب المهارات العسكرية في قواعد الجبهة في لبنان . وفي إحدى ألمرات يتعرف نظمي على الشهيد تحسين علي الشيخ (يحيى ) في بيروت ، ويقرر ألانضمام إلى ألتنظيم ، كانت الشعارات الثورية ألمعادية للبعث التي كان يرفعا التنظيم ، يجذب الكثير من الماركسيين والشيوعيين العراقيين الذين وجدوا في تحالف الحزب الشيوعي مع البعث خيانة لقضية الطبقة العاملة ولمبادئ ألماركسية أللينينية ، وكان أعضاء الحزب والذين تركوا الحزب احتجاجا على استمرار سياسة المهادنة مع البعث، يبحثون عن طرق وسبل أكثر ثورية لوقف سياسة ألاعتقالات والمضايقات التي كانت تقوم بها أجهزة البعث ضد أعضاء الحزب الشيوعي الحليف .

كان نظمي صادقا مع نفسه ومع التنظيم ألجديد والذي وجد في شخصية قائدها يحيى ، شخصية ذو كاريزما عاليا ، وكان مستعداًً لعمل كل ما يستطيع من أجل توسيع التنظيم وفتح مجالات متعددة لعمله داخل العراق وخارجه . ولكن يبدوا إن عيون المخابرات العراقية لم تكن بعيدة عن تحركات ذلك التنظيم الفتي ، وقامت أجهزة صدام بزرع عملائه في صفوف التنظيم مبكراً، وضعوا ألرفيق تحسين الشيخ علي (يحيى )، على رأس قائمة ألمرشحين للتصفية ، وقاموا بنسج خطة ذكية لا تكفي باغتيال تحسين فقط وإنما باتهام أقرب ألمخلصين له بالمشاركة في قتله ، إلا وهو ألرفيق نظمي وكانت تفاصيل الخطة كما رواها لي الرفيق نظمي وبعد أن اكتشفت خيوطها أجهزة ألأمن ألفلسطينية والتي على أثرها تم تبرئة ساحة نظمي .والخطة من أول على أخرها مفبركة من قبل أجهزة ألمخابرات .

بما إن نظمي عنصر غير مكشوف، وسبق له وأن سافر من وإلى بيروت دون أن يثير زياراته ألشبهات لدى سلطات أمن مطار بغداد، يقوم أحد ألمندسين من قبل المخابرات في التنظيم (مصطفى ) ، مصطفى كان ألامين العام المساعد للتنظيم !!! يطرح على قيادة التنظيم مهمة تكليف احد الرفاق بمهمة داخل العراق .

هناك أربعة رفاق يعرفهم مصطفى داخل العراق بحاجة إلى مساعدة ، يجب تأمين جوازات سفر مزورة لهم كي يستطيعوا الخروج من العراق لان حياتهم أصبح في خطر بعد إعتراف أحد أعضاء ألتنظيم عليهم ، وحيث إن نظمي هو الوحيد ألذي يستطيع أن يقوم بهذه المهمة فلقد تم تكليفه بإرساله ألي العراق وفي جيبه أربعة جوازات أردنية مزورة حسب ألأصول ومثبته عليها دخول مطار بغداد الدولي ، وما على نظمي إلاً تسليم هذه الجوازات للرفاق الأربعة والرجوع إلى بيروت بأسرع وقت ممكن .

كما قلت سلفاًً فأن نظمي كان إنسانا ثورياًً بحق وكان مخلصا وشفافاًً، وتقبل هذه المهمة بكل رحابة صدر ودون خوف ، لا بل وكما قال لي وهو يستعرض هذه المهمة النضالية التي خطط لها ألمخابرات العراقية من دون علمه :

- كنت مستعدا للموت ، لقد أخذت في الحسبان انكشاف أمري ولكن كنت رومانتيكيا ًً وحالما ,الان أقول كنت مغفلاً ،كنت أقارن نفسي بالثوار العظام ، وكنت أقول لنفسي أن ألزمن الذي يفصل الموت عن الحياة ما هي إلا لحظات وتخرج الروح لتبقى خالداًً في ذاكرة ألأجيال .

- يسافر نظمى على الخطوط الجوية العراقية من بيروت إلى بغداد ، يمر على بوابات العبور والتفتيش دون مشكلة ، يبقى في بغداد ليلة واحدة ، يقوم بالاتصال بالرفاق ألأربعة ألمختفين من أعين ألمخابرات ، طبعا هؤلاء ألرفاق ألمزعومين لم يكونوا سوى رجال ألمخابرات العراقية ، وبسبب حساسية المهمة وسريتها وخطورتها لم يتصل نظمي حتى بخطيبته أو أهلة ، يرجع ألى بيروت رجوع الأبطال المنتصرين بعد أن أدى ألأمانة ونفذ المهمة وأنقذ ألرفاق المحاصرين من السجن والاعتقال !!

- في شقة صغيرة أمام بناية رحمة في ضاحية ألفاكهاني ببيروت حيث مقر التنظيم ، ينظم الرفيق مصطفى حفلة إبتهاجاً بعود الرفيق نظمي وتنفيذه المهمة النضالية الخطرة داخل الوطن ، كان الرفيق تحسين حاضراًً أيضا ، بعد إنتهاء الحفل يخرج ألرفيق تحسين متوجهاًً لشقته في كورنيش المزرعة ، ووسط جو السكر المصاحب للحفلة يقوم مصطفى بإهداء مسدس لنظمي ، ويقوم نظمي بإطلاق النار في الهواء ابتهاجا ،وبعد دقائق يتم اغتيال تحسين علي ألشيخ (يحيى) وهو في طريقه إلى بيته .

- تقوم أجهزة ألأمن الفلسطينية باعتقال رفاق الشهيد و التحقيق معهم ، طبعا نظمي يكون أكثرهم ممن تحوم حوله الشبهات ، أولاًً لإنه قادم للتو من بغداد وثانياًً لأن عيار المسدس الذي اغتيل به تحسين هو نفس عيار المسدس الذي وجد عند نظمي ، وإن مسدسه لازال يحمل آثار ورائحة ألبارود

- باختصار كل الدلائل كانت تشير إلى أن نظمي هو ألذي قتل تحسين.

- لكي يبعد ألشبهات عن نفسه وبصفته سكرتير التنظيم مؤقتا ، أخبر مصطفى لاحقاً أجهزة ألأمن الفلسطينية ، بان الرفاق الذين كانوا في بغداد والذين سافر من أجلهم نظمي قد اعتقلوا في مطار بغداد موحياُ ولو بشكل غير مباشر بان نظمى ربما له ضلع في العملية كلها .

- تعرض نظمي إلى كل أنواع ألتعذيب من قبل أجهزة أمن الثورة الفلسطينية ، ولكنه لم يكن له شي ما يقوله ، وكان يقول لي أن أشد ما كان يؤلمني هو أنني أتهم بقتل أعز الناس عندي . بينما أستمر مصطفى بقيادة ألتنظيم ، بقى نظمي قابعا في السجن أكثر من سنه ، إلى أن اكتشفت أجهزة أمن الجبهة ألديمقراطية بان مصطفى هذا يلتقى وبشكل دوري مع أحد ضباط مخابرات ألسفارة العراقية في إحدى مقاهي شارع ألحمرا، وتم أعتقالة وأعترف بان المخابرات العراقية هي التي خططت ونفذت ألعملية كلها . وإن إرسال نظمي إلى بغداد كان الغرض منه إلصاق تهمة اغتيال تحسين به .--