مدينة خانقين تعيش في قلوب أبنائها وستبقى رمزاً للإخاء القومي

أحمد رجب
23/7/2005

كانت مدينة خانقين رغم عمل الأوباش لتخريبها وتحطيمها مدينة جميلة بأشجارها وبساتينها وغنية بحقولها النفطية في جياسروخ وبيكة والنفطخانة وبكثافة الزراعة فيها بدءاً من مغاز ودورة حيث يتفرع جدول بالاجو من نهر سيروان مروراً بسهل بنكورة المشهور بزراعة الشلب والرقي والبطيخ والخضراوات المتنوعة إلى إلتقائه بنهر الوند ( ئه لوه ند )، ومن ثمّ مروراً بالقرى التى تقع على ضفتيه وصولاً إلى المصب في نهر سيروان مرة أخرى، وفي الماضي القريب كان الناس يصنعون الفحم من أشجار البلوط المنتشرة في جبل بمو، ومن الجدير هنا الإشارة إلى الاحتياط النفطي في حقول جياسروخ الجاهزة والمحفوظة في الآبار التي تمّ غلق فوهاتها بالكونكريت المسلح.

كتب الكاتب والباحث القدير الأخ قيس قره داغي ضمن ملف المدن المنسية موضوعاً هاماً حول مدينة خانقين، وساهم الكاتب القدير الأخ محمود الوندي بكتابة ثناء وتعقيب على الموضوع الذي كتبه الأخ قيس قره داغي، وقد وردت في الموضوع والتعقيب جملة من الحوادث، وعدد من الأسماء، وهذه الحوادث والأسماء تثير العديد من الذكريات الجميلة والمرة، وتساهم في دفع الآخرين وتحّفزهم لكي ينشطوا بالكتابة عن مدينة خانقين والذكريات فيها، وهنا لابدّ من تقديم الشكر والثناء للعزيزين قيس قره داغي ومحمود الوندي مع التمنيات القلبية الصادقة بالإستمرار في الكتابة وعرض الحقائق خدمةً لأبناء شعبنا.

أبدأ من ذكريات الطفولة الجميلة في الحبانية حيث كان الوالد الضابط في الجيش الليبى الإنكليزي يوّفر لنا، أنا واخوتي قواطي (علب) الحلويات الانكليزية التي حرمت منها وأنا طفل يوم وقف والدي وشتم علناً وبأعلى صوته حكومة " المحروسة ( إليزابيث ) ملكة بريطانيا العظمى، وقد تمّ فصل والدي من الخدمة لعدم رضوخه وإمتثاله لأوامر أصحاب الرتب العليا من الضباط الجشعين والرجعيين الذين كانوا يقفون ضد الوطنيين ويتقربون من المشايخ ورؤساء العشائربغية جمع المال.

عدنا إلى مدينتنا في بداية الخمسينات لنعيش حياة صعبة، وأتذكرهنا بالمناسبة ان الناس بدأوا لأول مرة يشيدون دورهم السكنية في محلة ( مزرعة ) التي أصبحت فيما بعد من أكبر المحلات في خانقين، ولمدة ليست قصيرة بقى والدي عاطلاً عن العمل، وأتذكر انّ والدي الذي كان يبحث بجد ونشاط عن ايّ عمل يستطيع بواسطته أن يوّفر لنا العيش يردد بأنّ الفرج سيأتي وسوف نعيش وأجلب لكم الحلويات من جديد، وأخيراً وحسب القاعدة التي تقول : من جدّ وجد، استطاع والدي من إيجاد عمل في شركة نفط بانه بورة براتب يومي قدره
361 فلساً، ( كان سعر 3 بيضات فلس واحد، وكيلوين خيار بفلس).

لم يحصل والدي على دار سكن من الشركة الإنكليزية في بانه بوره، وأضطرّ أن يسكن ويعيش في قرية كوره شلة، لذا تحّولنا من المدينة إلى القرية، وقد فرحنا كثيراً ونحن أطفال نشاهد لأول مرة عجائب الحياة، كاللعب مثلاً مع البط والوز في الجدول الصغير حيث نبع الماء ( كانى )، ومشاهدة أنواع الحيوانات والطيور المختلفة.

لم تكن في قرية ( كوره شه له ) التي كانت أكبر قرية في المنطقة مدرسة ابتدائية، وكان أبناء القرية والقرى المجاورة ينتظرون فتح مدرسة، ودام الإنتظار طويلاً، وأخيراً وبفضل وجهود المخلصين وفي بداية الخمسينات من القرن الماضي تمّ فتح أول مدرسة ابتدائية في المنطقة، وهي مدرسة بانه بوره الأبتدائية للبنين على بعد عدة كيلومترات من قرية كوره شه له.

كنت ضمن الدفعة الأولى من التلاميذ المسجلين في مدرسة بانه بوره الابتدائية، وفي اليوم الأول من الدراسة التقينا مع المعلم الوحيد ( مدير المدرسة ) الأستاذ شفيق محمود جاف الذي تحدث إلينا بلطف وشجعنا على الدراسة، وقال لنا بأنكم أبنائي ولا فرق بينكم وبين إبنتي الكبرى شه ونم التي ستدرس معكم، وأنكم ستلعبون وستفرحون، وكلكم إخوة.

كانت مدرستنا للبنين، ولكن في الواقع كانت مختلطة لوجود طلاب وطالبات فيها، وهي في ذات الوقت مدرسة القوميات المتآخية نظراً لوجود أبناء مختلف القوميات فيها، ولأول مرة في حياتي، وأنا طفل صار لي عدد غير قليل من الأصدقاء والصديقات، وأتذكر منهم : آيدن شوكت وكنعان أحمد كجك، وأخته نجاة أحمد، وقيس سعيد وبلقيس سعيد وهم من التركمان، وصباح شهاب وطارق شهاب، والهام فوزي، ونورنوري وميسون نوري وهم من العرب، وفاروش باغوسيان وفانيك باغوسيان وآرام نزريان من الأرمن، ويوسف يلدا، وتوما خوشابا من الآشوريين وعدد كبير من الكورد. كنا نخرج معاً في سفرات مدرسية إلى الطبيعة المدهشة على نهر سيروان، وزيارة قرى علي خالة، وتازه دى وغيرها، ونلعب ونمرح معاً ولا فرق بين مسلم ومسيحي، ولا بين سني وشيعي.

في الصف الثاني جاءنا معلم جديد وهو الأستاذ حقي فرج، وفي الصف الثالث انتقل الأستاذ شفيق محمود جاف إلى خانقين وجاء بديله الأستاذ آصف عبدالله الذي كان يساند الشيخ رؤوف طالبانى في كل شيء، ويتعامل معه كأنه خادم وليس مديراَ للمدرسة.

كان الشيخ رؤوف طالبانى يستحوذ على قرى كوره شله وتازه دى وعلي خالة، وهو يدّعي بأنّ ملكيتها تعود له، ولا يدري أحد كيف حصل الشيخ، وأقرانه من الإقطاعيين على القرى، وهل كان ذلك بالقوة أو " هبة " من الله ؟.

لقد وقف إبن الشيخ المدعو حسام الدين الذي كان طالباً معنا دائماً ضدي وضد أخي محمود وأصدقائي المقّربين مثل حه مه كورده وهادي ملا نظر،لأنني كنت منذ الطفولة ضد تصرفات ( ابن ) الشيخ الذي كان يركب سيارته ( جيب ولز أمريكي)، ويحاول استفزازي واستفزاز أصدقائي، وكنت مشاكساً له، اضربه أحياناً وأحرّض الآخرين على مواجهته وعدم الإنصياع لأوامره، وأوامر والده. وكان التشاجر مع ابن الشيخ جريمة، وضربه جريمة لا تغتفر !!، والتحريض ضد الشيخ وعدم تنفيذ أوامره جريمة كبرى يعاقب بموجبها رئيس العائلة و" الجاني ".

حاول الشيخ حسب فكره الإقطاعي العفن التأثير على والدي، لكن والدي خذله بدبلوماسيته الذكية من انّه يعالج الأموربجدية، ولا يسمح لابنه أبداً الاعتداء على الآخرين، وأن الأستاذ آصف ومثلما أخبرني قد عالج الأمر بذكاء " مدهش " وهو ضرب ابني الطفل أمام الطلاب بالعصا !، أتريد يا شيخ أن أقتل ابني ؟ أتريد أكثر من هذا ؟، انّ أحمد وحسام الدين أطفال، والأطفال عادة يتشاجرون اليوم ويتصالحون غداً، ولكنني كأب أناشدك أيها الشيخ أن تطلب أنت من ابنك الشيخ حسام الدين أن يكف عن الإستفزاز وعدم تشجيعه على إثارة الآخرين كي يقفوا ضده، ومن الأفضل أن تخبر الأستاذ آصف عبدالله أن لا يقف مع الشيخ حسام الدين، وأن لا يسنده في كل شيء حفاظاً على شخصيتة وسمعة إبنكم الشيخ، وإذا استّمر آصف آفندي على إسناد ومساعدة إبنكم فقط، ستكون النتائج سلبية على شخصكم وسمعتكم، وانّ احتضان الأطفال أفضل من تأجيج العداوات أو الحساسيات بينهم.

بعد سنوات من المشاكسة والمشاجرة اًصبحنا، أنا والشيخ حسام الدين صديقين حميمين، وتوثقت صداقتنا بعد ثورة
14 تموز 1958 أكثر فأكثر عندما فقد الشيخ قراه.

بعد اغلاق الشركة الإنكليزية أبوابها بسبب الإنتهاء من أعمالها تمّ نقل العمال إلى شركات النفط الأخرى، أو صرفهم عن العمل، وطبقاً لتلك الحقيقة أغلقت مدرسة بانه بورة الأبتدائية هي الأخرى أبوابها.

في الصف الرابع وحسب ورقة النقل المدرسية أصبحت أحد تلاميذ مدرسة غازي الأول التي سميت بعد ثورة
14 تموز 1958 : مدرسة النضال في خانقين، ولأول مرة التقيت بالاستاذ والمربي الكبير عبدالعزيز بيشتيوان الذي أطلق عليّ لقب ( باله وانى كورد ) ومعناه ـ بطل الكورد، ولم يطلق الأستاذ الجليل اللقب علي عبثاً وهناك أسباب عديدة منها :

كلما تعثّر طالب في الصف الخامس في الإجابة عن سؤال، أرسل طالباً لكي يخبرني بالحضورأمامه، لأجيب على السؤال الموجه أصلاً إلى طالب آخر وأنا في الصف الرابع، ليثني عليّ باللقب، وكان يعلم بحسه الوطني وقربه من الأفكار القومية النهضوية النيّرة (كوردايه تى) وهو من المؤسسين لتلك الفكرة بخلافي مع أثنين من المعلمين وهما : أحمد الموصلاوي وعيدان خلف، فالأول كان أحمقاً متغطرساً ينادي على أحد الطلاب ليجيب على سؤال ما، فإذا كانت الإجابة صحيحة أو غير صحيحة يقول بصوت أجش : إنقلع، والثاني يتفوّه بكلمات بذيئة وينظر إلى الجميع بحقد، ومنذ اليوم الأول لتواجدي في مدرسة غازي الأول كنت من الطلاب المتفوقين، ولكن لم ( أحترم المعلمين المذكورين نظراً لتصرفاتهما المشينة ).

في خانقين وبسبب قربي من المربي والمرشد الجليل عبدالعزيز بيشتيوان تعرفت على عدد من أعضاء أسرته، هذه الأسرة المناضلة التي أصبحت بحق رافداً للحركة الوطنية والحركة الكوردية وخاصة العزيزين زوران وكامه ران.

وشكلنا أنا وزوران وكامه ران مع آخرين في محلة المزرعة فرقة صدامية نضرب كل من يسيئ لنا، ووقفنا بكل حزم ضد حثالات القومية العربية المتمثلة آنذاك بالقذرين أحمد الموصلاوي وعيدان خلف، وكنّا نقوم بغارات على كل من يدخل ضمن خانة أعدائنا، وتقوّت فيما بعد علاقاتنا مع زوران لإعتناقنا الشيوعية، وكامه ران لكونه صديق عزيز بالرغم من أنّه كان بارتياً، وكنا نلتقي يومياً عند مكتبة سيد حبيب أبو بهمن، أو في مقهى حسن شه ل في شارع السوق الرئيسي، أو مقهى أبو جاويد المقابل لسينما الخضراء، ونلعب أحياناً الدومينو والطاولة وغيرها، وكنا من هواة التمثيل السينمائي (الفطري )، ونحضر أفلام الممثليين الشهيرين المفضلين كريكوري بيك عندي، وجاك بلانس عند كامران ونقلدهما صوتاً وحركة.

بعد أشهر علم والدي بحالة الحرب بيني وبين المعلمين أحمد الموصلاوي وعيدان خلف وأختلاقهما للمشاكل اليومية مع جميع التلاميذ، وطلب نقلي إلى مدرسة النفطخانة الابتدائية.

في النفطخانة التقيت مع أصدقائي الذين نقلوا من مدرسة بانه بوره، وأصبح لي أصدقاء وصديقات من جميع القوميات مثل : شانت وأناهيد وأكنيس هايكيان ومناهل نعيم العزاوي ويوئيل ساندو وأكرم وأميرصاحب الخط الجميل الذي إنتحر فيما بعد، ولم يعرف أحد سبب ذلك، وتعرفت في المدرسة التي كانت للبنين ولكنها في الواقع مختلطة أيضاً على الأساتذة : جاويد سعيد بك ومحمد قاسم شكر وأمجد القليجي ومحمد علي وخليل مصطفى ( أبو مصطفى ) نائب رئيس تحرير صحيفة الحزب الشيوعي الكوردستاني ريكاى كوردستان حالياً.

في النفطخانة شاركت في المظاهرة التي انطلقت ضد المجرم عبدالوهاب الشواف الذي تآمر على ثورة
14 تموز وقائدها عبدالكريم قاسم.

وفي النفطخانة أيضاً كنت أخرج إلى الطبيعة حيث يتوفر الفطر والجمة، وكنت أجمع خلال ساعة ما يكفي لعائلتنا الكبيرة، عائلة المرحوم عبدالرحمن ـ أبو جبار، وكنت في الليل أخرج مع أقاربي لصيد الطيور البرية التي كانت تقترب بشكل غير متوقع من شعلة النيران التي تنتشر في المنطقة، بسبب كميات الغازالهائلة التي تحترق دون الإستفادة منها، ولم تكن المنطقة محّرمة آنذاك، وبعد سنوات من حكم البعث أصبحت المنطقة محرمة، وكان الاهتمام كبيراً بإستغلال المنطقة لأهداف البعث القذرة، بصفتها منطقة مهمة وفيها شركة النفط الوطنية التي كانت توزع منتوجاتها على كل العراق، وكنّا نعلم لقربنا من جارنا مدير الشركة الانكليزي المستر بفورد، ومن بعده جارنا المدير الجديد السيد مشعل حمودات بأن كميات هائلة تبقى من نفط خانقين كإحتياطي.

بعد نجاحي في إمتحانات البكالوريا للسادس الابتدائي رجعت إلى خانقين لأكون أحد طلاب ثانوية خانقين.

كنت منذ الطفولة أمارس الرياضة، وخاصة الركض، وفي الثانوية تطوّرت قابلياتي بفضل التدريب المستمر من قبل الأساتذة : عبد عبدالله ، وغازي غائب وعلي حربي، وأحياناً الاستاذ خالد العسكري من خارج طاقم الثانوية، ومن أصدقائي الرياضيين الغزال طه عباس، صلاح مامه، محمد غلام، آغا مراد، خليل فرج، صديقي وقريبي خالد علي مراد، طاهر أحمد بك وآخرين.

أما في كرة القدم أتذكر العمالقة : سامي عارف ( سامي قنبلة )، عباس أحمد، سهام بكر، عباس رؤوف، قيس شاكر (أصبح لاعباً في المنتخب العراقي)، إسماعيل قهرمان، ستار نامدار، أديب حقي، فاروق حقي، كرابيت إيشان وكمال شاكر سكرتير الحزب الشيوعي الكوردستاني حالياً.

في الثانوية زاد عدد أصدقائي، كما زاد الوعي السياسي عندي مبكراً وأنتميت إلى أتحاد الطلبة العام بفضل الأصدقاء : محمد عمر، فاروق عبدالقادر، إبراهيم باجلان، محمد واراني.

لقد أصيبت الحركة الوطنية العراقية والكوردية بإنتكاسة، وشهدت ساحة النضال المعارك الجانبية بين الأحزاب والقوى الوطنية، وللعلم والأسف كان الخلاف على أحر من الجمر بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديموقراطي الكوردستاني، وكانت ثانوية خانقين الميدان الفعلي للمعارك اليومية بين أعضاء ومؤازري الحزبين المذكورين، وكنت محظوظاً لكثرة أصدقائي وعدد من أقاربي في الحزب الديموقراطي الكوردستاني، كنت أضرب الجماعة ، ولكن الطرف الآخر لا يرد علي.

في أحد الأيام أقدم صديقي العزيز مدحت علي رضا وهو من أنصار ومؤازري البارتي بضربي بسكين حاد، ممّا أدّى إلى جرح عميق في ظهري، وإلى نزف الدم، وألتفت إلى مدحت ورأيته مصفر الوجه لا يعرف ماذا يفعل !!، وقلت له في الحال لا تهتم وحاول إخراج السكين ولا تقل بأنني الفاعل، بل قل بأنه اصطدم بباب الصف، فأخرج السكين وأستلمته ورميته بعيداً.

نقلت بسيارة الاسعاف إلى المستشفى، وفور وصولي وصل الأستاذ والمربي الكبير حافظ علي التاجر مدير ثانوية خانقين الذي وقعّ على ورقة يتحمل بموجبها المسؤولية الكاملة إذا حدث أي شيء لي، وذلك للإسراع بمعالجتي وبأنّه سيذهب بنفسه إلى الشرطة لإعلامها وإستحصال موافقتها فيما بعد، وطبقاً لوعد السيد المدير أسرع الأطباء في خياطة الجرح ( ثمان عقدات ) وإجراء اللازم.

ذكر التقرير الطبي بأنّ الجرح ناتج من سكين ، ولكن عندما حضرمسؤولو الشرطة للتحقيق وبعد تدقيق التقرير الطبي، أنكرت أمامهم وقلت بانّني اصطدمت بقوة بيّدّة باب الصف. وقد حاولوا كثيراً أن أغيّر قولي، إلا ان اصراري جعلهم الذهاب من حيث أتوا.

زارني الصديق مدحت علي رضا والأخوة في الحزب الديموقراطي الكوردستاني (البارتي) ومجاميع من أصدقائي أكثر من مرة وسط الإندهاش بأنني لم أتفوّه بأي شيء ضد مدحت، وضد جهة سياسية، وهذا السكوت دفع دائرة الأمن في المدينة للتحري والوقوف على حقيقة الحادث، ومن أجل ذلك استخدمت الدائرة معي لهجة التهديد والوعيد والسجن، ولكن فشلت ولم تستطع الحصول على أي شيء.

كنت في القسم الداخلي في ( بناية شاكر خضر ) الواقع مقابل مدرسة المنذرية الابتدائية آنذاك، وعشت مع أصدقائي جبار مجيد، عمر غالب طالباني، صابر كاكه يى، محمد سمين، علي مراد، كرم باجلان، وعدد كبير من البارتيين والشيوعيين، نقرأ ونمرح، إلى أن أصبح العروبي عبدالكريم الدوري مسؤولاَ عن القسم، ووجد هذا متنفساً له بعد إنحراف ثورة
14 تموز لكي يحارب الطلاب الوطنيين من البارتيين والشيوعيين، وكان يتدخل في كل شيء، وأراد أن يستغل حالة العداوة بين البارتيين والشيوعيين كما يراها يومياً في المدرسة، ولكنه مهما حاول كان الفشل إلى جانبه، ولم نرض لتصرفاته، الأمر الذي حدا بنا أن نقرر ضربه ( ضرباً مبرحاً ) وفعلاً نفذنا قرارنا الجماعي، وفي اليوم التالي تشكلت لجنة تحقيقية شارك فيها وكيل مدير تربية ديالى مع عدد من المشرفيين التربويين وعدد من المدرسين بما فيهم معاون ثانوية خانقين الأستاذ عباس البهرزي الذي وقف مع الطلاب دائماً. واستمرّ التحقيق عدة أيام، لم تكن لدى لجان التحقيق ولا لدى عبدالكريم الدوري نقاط إثبات وشهود، وكانت النتيجة تقديم الإعتذار له من قبل لجنة التحقيق، والتوصية للطلاب بتقديم الإعتذارله أيضاً وتنفيذ أوامره من قبل الجميع.

كنت ضمن عدد من الطلاب، لم نقدم للسيد عبدالكريم الدوري الإعتذار، ولم نقبل البقاء في القسم الداخلي وآثرنا الإستغناءعن المخصصات
7.500 دينار عراقي ( مبلغ 7.500 دينار لم يكن قليلاُ ) في ذلك الوقت. المهم خرجت من القسم الداخلي وأجرت غرفة في فندق الإعتماد مع الأخ سربست الشيخ طالب طالباني. وفي الفندق عاش عدد من خيرة المدرسين والمعلمين مثل الأساتذة : عبدالقادر خليل، نصر عباس عمارة، خليل مصطفى، حبيب الحسني وآخرين.

تطوّرت علاقتي مع الأخ ابراهيم باجلان نظراً لتواضعه ولإعتناقنا الشيوعية ، وكان شغوفاً بالقراءة، يقرأ كل شيء يحصل عليه، وهنا أتذكر بأنه حصل على كتاب الكاتب المصري إحسان عبدالقدوس : لا أنام، وهو كتاب ضخم جدا، وقرر ابراهيم باجلان أن لا ينام حتى ينتهي من قراءة الكتاب، وقد نفذ وعده. أتفقنا مع الأخ ابراهيم إصدار النشرة الجدارية المدرسية ( هاذة ـ الخرير ) في ثانوية خانقين للبنين، ونظراً لتواضعه كان يلح أن أكون رئيساً لتحريرها، في الوقت الذي كان ابراهيم باجلان متمكناً، يكتب صفحات عديدة وبإنشاء جميل جداً في زمن قصير.

كنت أدرس في خانقين وبيتنا في دربنديخان حيث وجد والدي عملاً في الشركة الإنكليزية ـ الفرنسية للإشراف على إنجاز النفق الذي يربط حالياً بين دربنديخان وقرية قاشتي على طريق السليمانية، كما وجد أخي الأكبر عملاً لدى الشركة الأمريكية ( المقاولة ) لأعمال سد دربنديخان. ففي زيارة إلى دربنديخان والتي أستغرقت عدة ساعات بسبب رداءة الطريق تمّ إستدعائي من قبل دائرة أمن دربنديخان، وأرسلت فوراً إلى مديرية أمن السليمانية، وبعد يوم واحد أرسلت إلى بغداد لكي أكون في "ضيافة" مديرية الأمن العامة، وعند الإستفسار مني من قبل المحققين :

اسمك؟

أحمد رجب

من خانقين ؟

نعم

قام المحقق وضربني بقوة وقال لشرطي الأمن خذوه، انه السافل نفسه، لم أدري لحد الآن لماذا يضربونني بوحشية !!.

المهم تمّ تعذيبي لمدة اسبوع أو أكثر، وهم يرددون قل لنا الحقيقة، وكنت في كل مرّة أعيد أنا بدوري ماذا تريدون؟

ماذا نريد يا كلب ؟ قلنا لنا ما كان دورك في المقاومة الشعبية ؟

عن أي مقاومة شعبية تتحدثون ؟

عن دورك فيها يا نذل !!.

لأول مرة في حياتي أواجه كلمات نابية، وهي خصلة من خصلات أزلام الأمن والاستخبارات.

أي دور تقصدون ؟ لم أكن منتمياً للمقاومة الشعبية وعمري لا يساعد على ذلك.

بعد شهر نودي عليَ من قبل محقق ؟

جاء في إفادتك أثناء التحقيق معك، بأنك غير منتمي للمقاومة الشعبية.

قلت : نعم، لم أكن منتمياً إلى المقاومة الشعبية.

كان الرجل شريفاً، وهو من أفراد الأمن، وقال لي : هل يوجد من يكفلك حتى نطلق سراحك الآن؟ وأضاف : الاسم المطلوب هو : أحمد رجب علي الذي يدرس في جيكوسلوفاكيا. ربعنا متوهمون.

والشخص الذي ساعدني اسمه : محمد علي الشومان، الذي أصبح محامياً فيما بعد في مدينة عراقية. وبكفالة تم إطلاق سراحي بعد قضاء عدة أشهر في التعذيب والسجن، هكذا كان حال الحكومات التي لا تحترم أبسط الحقوق.

في 8 شباط الأسود عام
1963 جاء البعثيون إلى حكم العراق، وعندما أصدر الحاكم العسكري بيانه الإجرامي بإبادة الشيوعيين والوطنيين، اختفيت في القرى عند الأقارب ولم أذهب إلى المدرسة، إلى أن صدر قرار من حكومة المتآمرين يقضي بطرد الطلاب ما لم يلتحقوا خلال أسبوع واحد.

بعد قرار الزمرة المجرمة عدت إلى الدراسة، وبدلاً من الأستاذ المربي حافظ علي التاجر أصبح البعثي العروبي عبدالرحمن مديراً للمدرسة، وبمبادرة من الساقطين خلقياً نجيب وطلوبي ابراهيم وطارق عريبي تشكل الحرس القومي ومن ثم فرع " الاتحاد الوطني لطلبة العراق " لمحاربة الطلاب عامة والوطنيين منهم خاصةً، ونظراً لوجود هذه الحثالة البعثية تركت مدينتي خانقين متوجهاً إلى بغداد لأصبح أحد طلاب ثانوية الشعب في باب الشيخ.

في زيارتي لسجن الرمادي عام
1963 التقيت للمرة الأخيرة بصديقي العزيز زوران عبدالعزيز بيشتيوان الذي كان هناك مع نخبة شيوعية مناضلة ومنهم: حسين نادر، زهدي الداوودي وكمال شاكر، وبعد سنوات سمعت بإستشهاد زوران وكامه ران، وعام 1971 التقيت في معتقل قصر النهاية بالأخ العزيز سيروان بشتيوان، وهو أصغر من أخويه الشهيدين.

في ملف المدن المنسية يذكر الباحث القدير قيس قرداغي مع إضافات الكاتب القدير محمود الوندي أسماء عديدة، ومن المناضلين جاء اسم نصرالدين، فنصرالدين مجيد دلو كان شيوعياً نشطاً وله دور بارز في التنظيم، ونظراً لجسارته وصلابته تم تصفيته من قبل جلاوزة البعث المجرمين ورمي جثته على الطرقات، وكانت علاقتي معه قوية نظراً للصداقة العائلية مع أقاربه، وامّا الأخ أكبر حيدر الذي كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الديموقراطي الكوردستاني، فهو صديق أيام الدراسة، وقد التقينا في قره داغ أثناء عمليات الأنفال السيئة الصيت عام
1988، كما جاء اسم الكاتب الكبير عبدالمجيد لطفي الذي تعرفت عليه من خلال قرائتي لكتابه المعنون : عزيزتي سيمون، وعن صداقتي لإبنه الدكتور سعد عندما كان طبيباً في مستشفى دربنديخان، كما تمت الإشارة إلى جبل بمو الذي عشنا في ضيافته مرات عديدة عندما كانت قطعان الحرس القومي البعثي والسلطات الدموية تبحث عنا، وامّا ذكر قرى تازه شار وبنكوره يعيدني الى أيام الطفولة حيث كنا نذهب إليها لزيارة الأعمام والاخوال والأقارب فيها.

وعن بيان خانقين وللتصحيح لا غير من الضروري أن نشير بأنّ المبادرة كانت من العزيز داله هو خانه قينى ( هيوا علي اغا )، ومن الموقعين الكاتب العزيز دانا جلال وأنا والآخرين. وامّا عن الأسماء الأخرى ومن الأحياء الفنان الكوردي العالمي المعروف اسماعيل خياط زميلي منذ أيام الدراسة، والعزيز رمزي قطب عندما كان معلماً في قرية مالومه في دولي جافايه تى، ومن الذين رحلوا المرحومين : نبرد حمه سعيد جاف صديقي أيام الدراسة، والخطاط والنصير الشيوعي مرشد محمود الوندي (حميد) أيام النضال ضد الدكتاتورية في جبال كوردستان الشماء.

وكان من الضروري والحديث يجري عن خانقين الإشارة إلى النضالات العمالية والفلاحية، وعن الإنتفاضات وخاصةً إنتفاضة هورين وشيخان، وإذا ساعدتني الظروف سوف أتناول الجانب المشرق لنضال أبناء خانقين ضد شركات النفط والإقطاعيين.

تعلمت من مدينتي الجميلة الكثير، وقبل كل شيء تعلمت الحياة والنضال والعيش مع أبناء القوميات المتآخية من العرب والكورد والتركمان والكلدان والآشوريين والسريان والأرمن، ولم نفرق نحن أبناء القوميات بين مسلم وشيعي، ولا بين إيزدي وصبي، وتعلمت التصدي للإقطاع والظلم والتصرفات المشينة، ومحاربة الأعداء واحترام الأصدقاء ورجالات المجتمع من الرموز الوطنية والشخصيات المربية، وستبقى هذه المدينة الباسلة مثالاً حياً على التآزروالأخوة الصادقة بين جميع مكونات الشعب، والإستمرار في النضال مع قطاعات الشعب الأخرى لبناء عراق ديموقراطي أتحادي يوفر الخير والرخاء والأمان والطمأنينة للجميع.