يوم الشهيد في قلعة دزة

ضياء السورملي ـ لندن
kadhem@hotmail.com
موسوعة صوت العراق، 19/2/2005

كان الجو باردا والمطر لايتوقف والثلوج تغطي قمم الجبال المحيطة بوادي الشهداء ( دولى شه هيدان ) ومدينة قلعة دزة الواقعة في اقصى الشمال الشرقي من العراق ،كانت الحركة والنشاط يدبان في كل مكان من هذه المدينة الصغيرة التي استقبلت طلبة جامعة السليمانية وكل من هجروا جامعاتهم نتيجة البطش والهمجية التي كانت تمارسها اجهزة القمع الحكومية ضد العرب الأكراد بشكل عام وضد كل من يريد وينشد الحرية والسلام

لقد احتفل الكورد في كل مكان بعيد النوروز في الحادي والعشرين من شهر اذار سنة
1974 ، كان العيد هذه السنة يختلف لأن الحكومة المركزية في بغداد نكثت بعهدها في تنفيذ اتفاقية الحادي عشر من آذار الموقعة بين الحكومة العراقية وقيادة الثورة الكردية بزعامة القائد الراحل مصطفى البارزاني ، التحضيرات لأستيعاب الطلبة الوافدين في كردستان في جامعة في مدينة قلعة دزة تسير على قدم وساق ، الجميع متلهفون لأنجاح هذا الحلم ، وان تستمر قافلة العلم وان يتعبد الطريق امام العلماء والشرفاء

تم افراغ مستودع كبير كان يستخدم لجمع التبوغ المزروعة في السهول الممتدة حول مدينة رانية و مدينة قلعة دزة ، تبرع الأهالي بفرش هذا المستودع الكبير ليصبح قسما داخليا لسكنة الطلبة والشباب والأساتذة ، كانوا بعمر الزهور يحلمون بمستقبل واعد لشعبهم وامتهم ومستقبل جميل لعوائلهم .

رائحة الحرب الكريهة المتوقعة من قبل نظام أحمد حسن البكر وزمرته في بغداد كانت تزكم انوف الطلبة والناس هناك وكأنهم كانوا يعرفون ماذا يخبئ لهم حكم الطغاة ، سارعنا مع أهالي المدينة الى حفر الخنادق بطرق بدائية في كل مكان ، خندق على شكل حرف
L وخندق على شكل W متعرج ، كنا نهئ انفسنا لتكملة العام الدراسي ، تركت قسم الرياضيات في كلية العلوم في جامعة البصرة والتحقت بالحركة الكردية ، وألتحق الكثير من زملائي بالحركة من جامعة بغداد والجامعة المستنصرية مضافا لكل هؤلاء طلبة جامعة السليمانية .

في الساعة الرابعة والربع من فجر صبيحة يوم الرابع والعشرين من شهر نيسان من العام
1974 حلقت في سماء المدينة طائرتان حربيتان ، شقتا عنان السماء وهدوء صباح شهر الزهور والياسمين والنرجس بأزيزهما المرعب منذرة بحدوث كارثة شؤم تذكرني بتشائم أهالينا في أرياف الجنوب عندما ينعق الغراب فوق رؤوسهم ، لم تمض ساعة واحدة حتى حلقت في سماء مدينة قلعة دزة مرة اخرى طائرة عملاقة تسمى توبوليف أو باجر وهي طائرة من نوع حاملة وقاذفة للقنابل الثقيلة المحرمة دوليا المسماة بقنابل النابالم وكانت ترافقها طائرتين حربيتين مقاتلتين لحمايتها ، كان أغلب الناس نيام لم يتوقعوا ان تقصفهم الغربان ، رغم التحذيرات والتوقعات بحدوث هجوم وقصف ، بدأ صراخ الأنذار بقدوم الطائرات وكان الكل يصيح باللغة الكردية هات ... هات ... هات بمعنى جاءت ... جاءت ... جاءت ، نعم لقد جاءت الطائرات لتقصف ابناء الشعب لتقصف الطلبة الحالمين بمستقبل واعد لهم ولعوائلهم ، تذكرت عائلتي وتذكرت يوم العاشر من محرم ويوم عاشوراء ويوم سبي النساء وهجوم الأعداء على سيد الشهداء

فرغت طائرة الباجر توبوليف الروسية الصنع قنابل النابالم الأربعة على عدة اماكن في المدينة وسقطت واحدة منها في المستودع المخصص للطلبة ، كان الشهيد ئازاد في المستودع لم يستطع الأسراع والذهاب الى الخنادق التي حفرناها بجوار المستودع وكل من خرج من المستودع نجا ، اما من بقي استشهد ، كان الشهيد ئازاد قبل ليلة يغني لنا أغنيته المشهورة (ده مه كرى مه كرى جاويكى جوانة هه ر جه ند تو ده كرى مالم ويرانه )

كما استشهد سه روه ر الذي كان يحلم بالزواج ، استشهد في يوم الخطبة والحنة ويوم الزفاف ، كان دمه ماء الورد الذي يُرشُ فوق الرؤوس يوم الحفلات وايام العيد ويوم الخطوبة والزواج ، استشهد سه روه ر واستشهد معه حلمه بالزواج ، لا تحزن يا رفيقي فنحن سجلناك في قائمة الشرفاء شهيد

تبلغ زنة قنبلة النابالم حوالي الطن من المواد الشديدة الأحتراق والبارود المخلوط بمادة تي ان تي ، هذه القنبلة المحرمة دوليا ولكن مسموح لها وغير ممنوعة من ضرب الأكراد والطلبة على وجه الخصوص ، كانت مجزرة رهيبة تلك التي احدثها القصف وتناثر زجاج المباني والحجر والصخر وشظايا القنابل في كل مكان ، كل شئ كان اسود نتيجة الحروق والدخان ، كنت أجمع أشلاء الشهداء وابعد الصخر والحجر عن اجساد النساء والأطفال ، كان معي صديقي مصدق خسرو الطبيب البيطري ، كانت وجوه الجميع صفراء وخالية من الدماء ، لم نذق الطعام من شدة الصدمة والذهول لعدة ايام ، كان الخال ابو يونس المندلاوي بمثابة الوالد الذي يحتضن اولاده يعمل لنا الشاي ويقرأ حجم الماساة في عيوننا ، يجمعنا حوله خارج المدينة لحين حلول الظلام ، شعرت بعد هذا القصف ان مجرى الدم ولونه في عروقي قد تغير وان حياتي قد تغيرت حروف كتابته من جديد وخطت منذ تلك اللحظة باسلوب جديد ، منذ ذلك الزمن عرفت انني قد نذرت حياتي كلها للشهداء

أعلنت القيادة الكردية يوم الرابع والعشرين من شهر نيسان يوما للشهيد الكردي الخالد ، وكان هذا اول يوم للشهيد اكون فيه شاهد عيان لمجزرة بشعة نفذها مجرمون دون ان يعاقبوا وحتى كتابة هذه السطور ، وهنا تكمن المأساة

قررت ترك المدينة والتوجه الى مدينة جومان مقر القيادة الكردية في اعالي جبال كردستان مع عدد من زملائي من الطلبة الناجين ، كانت الرحلة تتطلب منا السير على سفوح الجبال وتجنب ربايا الجيش وقصف الطائرات والمدفعية وحقول الألغام والذئاب التي تعوي عند حلول الظلام ، لم اكن اعرف هذه المصطلحات سابقا ولا هذه الطرقات ولكن تعلمتهما مع سبق الأصرار ، انها مسالة حياة او موت ومسالة شعب يناضل ويكافح من اجل البقاء

ياللعنة ما ان وصلنا الى جسر كلالة ( بردى كلالة ) حتى امطرت الطائرات مدينة كلالة بالقنابل مرة اخرى ، اكثر من ثلاثين شهيدا من الشيوخ المسنين الذي كانوا في المدينة المهجورة ، مرة اخرى اجد نفسي امام موقف لم اشهده في حياتي ولكن ما العمل انا ورفاقي الذين وصلنا للتو الى المدينة المنكوبة بدانا نجمع الأشلاء ونضعها في ماكنة زراعية تجر عربة مكشوفة (تراكتور) وسط عويل وصراخ امهات الضحايا ، تذكرت والدتي يوم توفي اخي وادركت مشاعرها في تلك اللحظة التي يختلط فيها الموت والذكريات والحب والبعد عن الوالدة والحبيبة ، انه يوم اخر للشهيد فهل من مزيد ، كم ساحصي من ايام الشهداء

حلبجة والخمسة الآف شهيد ام كربلاء معقل سيد الشهداء الحسين (ع) ، ام مدينة الحي والشهيد سعيد بن جبير الذي ذبحه الحجاج بن يوسف الثقفي

لماذا شيدوا لك صرحا يا شهيد ولماذا انشدوا لك النشيد ولماذا سموك شهيد ، هل يفقه الطغاة معنى الشهادة ؟ لا انهم لا يفقهون لأنهم جبناء لأنهم حقراء لأنهم في منزلة غير منزلتك المقدسة انهم في القاع وفي الحضيض انهم في مزابل التاريخ ، من يدلني على قبر يزيد !!! واين قبر الحجاج !!! بل اين قبر هتلر !!! واين قبر فرعون !!! واين قبر القيصر !!! واين قبور الطغاة جميعهم ؟

سنكون لك نصبا أيها الشهيد في كل قبرة جماعية في حلبجة وبغداد وكركوك والكوت والبصرة وكربلاء وفي كل بقاع العراق ستكون ايها الشهيد رمزا للكورد الفيليين والسورانيين والهورمانيين والبهدنانيين والبارزانيين وبني لام والسواعد وشمر وربيعة واهل الكوفة والأنصار

ستكون لنا رمزا ايها الشهيد ، ستكون ايامنا كلها عنوانا لك ايها الشهيد ، نم قرير العين ايها الشهيد ، المجد والخلود لك ايها الشهيد السعيد